شعار قسم مدونات

بين علاو وشيرين.. هكذا ألهمتني جنين

المذيع اليمني يحيى علاو ومراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة (الجزيرة)

لم تكن أحداث مخيم جنين التي بدأت في الثالث من أبريل/نيسان 2002 مجرد حدث عادي بالنسبة لكاتب هذه السطور، ليس على مستوى القضية الفلسطينية والوعي نحوها فحسب، بل على مستوى المسار المهني أيضا، وهو محور التدوينة هذه، إذ مثّل اجتياح الاحتلال الإسرائيلي للمخيم  حينها حدثا بارزا، تفاعلت معه جل الدول العربية والإسلامية، وبينها اليمن الذي أعلن فتح باب التبرعات رسميا وشعبيا لدعم حملة جنين، وواكبها الإعلام اليمني حينها بالصوت والصورة، ومن هنا بدأت أولى خطوات رحلتي الصحفية، وأبصرت عين الفتى للوهلة الأولى نافذة أوسع نحو الإعلام والقضية الفلسطينية، حينما زار مدينة الحديدة (غربي اليمن) طاقم تلفزيوني من الفضائية اليمنية بقيادة الإعلامي اليمني الراحل يحيى علي علّاو، وكنت طالبا في مطلع المرحلة الدراسية الثانوية بالمدينة، فالتقيت المذيع علاو حينها، وكانت نقطة الانطلاقة عبر التعرف إليه ومرافقته خلال تغطية الفعاليات الداعمة لجنين لنحو أسبوع في "الحُديدة" فضلا عن سماعي بعض المصطلحات الإعلامية منه وفريقه خلال البث المباشر وأثناء التصوير والمقابلات ضمن يوميات العمل الميداني، وتطورت معرفتي به إلى مستوى أكبر، منحني فيه كل الدعم والتشجيع نحو الإعلام ودراسته وإتاحة المجال للمساهمة في برامج ينتجها هو كـ "فرسان الميدان" و"أسواق شعبية" و"أهل العزم" لسنوات، قبل أن يغادرنا رحمه الله في العام 2010، قبل أشهر من نيلي درجة الإجازة في الإذاعة والتلفزيون.

أما الصحفية الراحلة شيرين أبو عاقلة، فقد ارتبطت بذاكرتنا وساهمت في تشكيل وعينا حيال القضية الفلسطينية ويومياتها بمختلف ميادين الكفاح الفلسطيني وأنات الثكالى وأمهات الشهداء وقصص البطولة، عبر تقاريرها وقصصها الإخبارية خلال ربع قرن على امتداد الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لم تترك قرية أو مدينة أو مخيما فلسطينيا إلا وأعدت عنه أو منه قصة صحفية، إلا أنه كما كانت جنين الأيقونة الأبرز على جسد الوطن الفلسطيني المقاوم، تماما كانت شيرين أيقونة على الدرب ذاته، شهيدة في ميدان الصحافة والكلمة الموضوعية التي لا تنحاز إلا إلى الإنسان، وتقف مع مشروع مجابهة المحتل، وبالقدر ذاته بادلت شيرين جنين وفاء بوفاء، من دون أن نغفل توثيقها أحداثا فلسطينية مفصلية، كتغطية أحداث انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية) بين عامي 2000 و2004، التي اجتاح الاحتلال الإسرائيلي فيها الضفة الغربية، وغطت فيها عمليات قصف واغتيال وأحداثا بالغة الخطورة.

"في الطريق إلى جنين" كان هذا آخر ما خطته مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة على صفحتها عبر فيسبوك قبل أيام وهي بطريقها لمدينة جنين شمال الضفة الغربية لتغطية اقتحامات الاحتلال المستمرة منذ أشهر عدة، وللمفارقة فإن استشهادها كان أيضا في جنين برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما تحدث عنه كثيرون ووثقه مراسل الجزيرة نت في تقرير له، وكأن شيرين التي علمتنا أبجديات الصحافة نحن الجيل الذي تفتق وعيه على تقاريرها، ضاعفت في تعليمنا كل ذلك بحضورها اللافت في جنين وتغطية قصصه واقتحاماته المتكررة من قبل آلة الاحتلال العسكرية، وأبت إلا أن تفارق دنيانا بعد أن غرست نفسها في أرض جنين وسقت تراب المخيم بدمها الذي طالما كتبت به تقاريرها أيضا.

ولإنْ كانت الراحلة شيرين قالت في مقطع مصور خلال حضورها الأخير للتغطية بجنين إن "جنين حالة كبيرة، جنين معنويات عالية" فإن الراحلة كانت مدرسة في المعنويات والعطاء المتجدد، لم يجد المشاهد مللا في قصصها رغم تشابه المواضيع التي تنقلها على مدى نحو أكثر من عقدين من الخبر الفلسطيني بكل تفاصيله، فضلا عن أسلوبها الخاص الذي لا يشبهه أحد، تعبق معه تقاريرها برائحة القدس العتيقة وتراب أرض فلسطين وأشجار الزيتون.

ولإن كان بين حكاية بدايتي مع الإعلام والصحافة عبر التعرف إلى المذيع يحيى علاو عام 2002 وبين اغتيال شيرين أبو عاقلة برصاص الاحتلال الأربعاء الماضي (الرابع من مايو/أيار 2022) فارق زمني، إلا أن جنين هي القاسم المشترك بين الحكايتين ومصدر إلهام يصعب عليّ تجاهله.

فضلا عن أن كلا الصحفيّين (علّاو وشيرين) فارسا إعلام وصاحبا رسالة بالغة الأثر، كانت وستبقى يدركها من عرفهما، أو عاش مع ما قدماه من إنتاجهما الصحفي التلفزيوني، أجدني في هذه السطور مدينا لهما في تعليمي صحفيا وإلهامي شغفا في "مهنة المتاعب" وقبل ذلك إنسانيتهما التي أسكنت "علاو" حب كل اليمنيين، وجعلت شيرين ابنتا لكل بيت وحديث كل محفل، ليس على المستوى الفلسطيني أو العربي فحسب بل العالمي، كيف لا، وهي التي "جاءت من القدس لتستشهد بمخيم جنين".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.