لطالما قيض الأدباء عوالم خيالاتهم الفسيحة ليستعينوا بها على غرس فسيل المعرفة والتخلق بمكارم الأخلاق في قرائهم، ناثرين فلسفتهم داخل سياق قصصي جاذب وماتع. فنرى على سبيل المثال جبران خليل جبران في خالدته "النبي"، يبسط الفلسفة العميقة والمشاعر الإنسانية المؤثرة بعبارات عذبة مقنعة على لسان "المصطفى" الذي جاءه أهل "أورفليس" من كل حدب وصوب يلتمسون أنوار الحكمة من أقواله؛ ليرسم للقارئ لوحة فنية من ألوان المحبة والإخاء تحبب إلى نفس القارئ خصال التعاون والتعاضد ومودة الآخر والعطف عليه والتحرك في الحياة بخطوات إلهية (تشبها بصفات الإله العظيمة). وهو في واقع الأمر يبشر بإيمانه الشرقي في بلاد أميركا التي عاش فيها حينئذ، البلد الذي أنهكت المادية المجحفة أرواح أهله، وسقاه الإلحاد كؤوسا مترعة من الكآبة والعدمية والفردانية.
ومن سمات الأديب الفذ الموهوب ذي الحس العالي أنه يداعب مشاعر قرائه بكتاباته؛ ليقرب قلوبهم من مادة الفضيلة التي يحاول إحياءها فيهم وتوزيع ثمراتها عليهم. ومحفزا إياهم للبحث عما أراد توطينه فيهم من المعاني التي تنتظر أن تكتشف من وراء الألفاظ والجمل والسطور.
ومن إحدى أنفس اليراعات الروسية وأخصب أدمغتها وصلت إلينا قطعة أدبية خالدة في بقائها، نفيسة في غايتها، سامية في مضمونها، وهي رائعة ليو تولستوي "علام يحيا الإنسان؟" قصة الملك الذي عصى أمر ربه لإنه لم يرتق مرتقى يتيح له فهم سبل عمل الله الخفية في تدبير شؤون خلقه.
وفي الرواية، يؤمر ملك من ملائكة السماء بقبض روح إحدى النساء، فيتحرى الملك أمرها ليجدها أرملة قد قضى بعلها منذ أمد غير قصير، وقد عمدت هذه الأم على تدبير شؤون ولدين يتيمين قد بقيا لها من زوجها الذي أدبر وقضى نحبه مسلما نفسه لداعي الخلود. فيعطف هذا الملاك النوراني على هذه الأم الإنسانة المسكينة، ويئن شفقة على الطفلين اليتيمين المقهورين؛ فيعترض في لحظة انفعال على أمر الله في نزع روحها.
وإثر صنيع الملك، يصدر الأمر في الملكوت بمعاقبة هذا الملاك العاصي عقابا فريدا من نوعه، إذ قضي عليه بأن ينزل إلى الأرض الدنيا إنسانا، على ألا يعود حتى يجد الأجوبة على ثلاثة أسئلة هي: ما الذي منحه الإنسان؟ وما الذي منعه الإنسان؟ وعلام يحيا الإنسان؟
ويشاء الكاتب أن ينزل هذا الملك الذي صير إنسانا في أرض موسكو وقت شتائها الزمهريري، وبينما هو سائر في الطرقات الممتلئة بالثلوج وسط مناخ البلد العاصف ريحا والقارس بردا، إذ يعثر عليه إسكافي بسيط الهيئة، رث الثياب، فيشفق على هذا الغريب العاري، ويتخذه ضيفا له، مصطحبا إياه معه إلى منزله المتواضع الصغير، وهناك شاركه طعامه البسيط وكساه بشيء من ثيابه، ولعلها كانت ثيابا مرقعة بالية كما هو متوقع، ومن ثم عرض عليه البقاء ما شاء هذا الضيف أن يبقى، حتى يجد سبيله.
وهنا خطر للملك الجواب على السؤال الأول: ما الذي منحه الإنسان؟ والجواب كان: حب الآخرين وحب مساعدتهم؛ وإلا فما الذي حمل هذا الإسكافي الفقير الشفوق الحنون بأن يستقبل هذا التائه المسكين، وهو الغارق في الفقر، المعاني منه، المحتاج لكل لقيمة وثوب يجدهما ليخمد جوعه ويكسي جسمه؟ إلا أن يكون في وجدانه إنسان يحب إقراء الضيف وإغاثة المحتاج وإن لم يطلب منه أحد ذلك، فانتهى موفقا إلى جواب السؤال الأول.
وتدور الأيام على هذا الملاك، وتشرق شموس وتلمع أهلة في قبة السماء وهو في سبيله يفتش عن الأجوبة المتبقية، وفي يوم معلوم يتصل حبله بحبل إنسان فخور متكبر، قد أوتي ملكا وثروة جعلتا الرقاب تشرئب كلما زفت الأخبار بعبوره من إحدى طرقات المدينة. وكان صاحبنا على وفرة ما بين يديه من الرزق بخيلا ندر أن يبسط يده للفقراء، وإن فعل فنواله لا يتعدى أن يكون نزرا يسيرا لا ينقع غلة ولا يشفي علة من شدة لؤمه. وفي أحد الأيام أشاع هذ الثري بين الناس أنه يبحث عن زوج نعال لم يملك مثلهما أحد من العالمين، واشتد التنافس بين الناس، وانكب الحذاؤون المبدعون يعالجون الأفكار، ويسلخون أفخر الجلود طامعين بالفوز بعطاء عظيم.
ولما جاء ميقات تسليم زوج النعال، والملك ماكث بين الحشود الغفيرة يعاين وينظر، إذ بالمنية تعاجل هذا الفخور وتقبضه من دنياه الباذخة المزيفة إلى العالم الحقيقي المجرد من الأموال والممتلكات، حيث لا تفاخر بما في الجيب ولا تعالي على الآخر المسحوق. وهنا تفكر ملاكنا الإنساني وقال: الذي منعه الإنسان هو حكمة تحديد أهدافه في هذه الدنيا، فلو شاء هذا الثري لأغدق على الفقراء، وافتتح المشاريع، وشيد المدارس والمعابد وبذل ماله في شتى سبل الخير، ولكنه قبض متشوفا لزوج من النعال، فكانت كذلك قيمة حياته، وانتهى الملك موفقا للجواب على السؤال الثاني.
وراح بعدها يقلب الحوادث في ذهنه، مكملا مشواره المضني في البحث عن الجواب الأخير، لعله يعود إلى مكانه الذي ينتمي إليه في الملكوت، وأثناء تفكره في ما جرى له من المجريات، وما خبره في محنته هذه من الاختبارات، وما استوعبه في خلده السماوي من الحقائق والمعلومات، انتهى الملك إلى أن ما يعيش عليه الإنسان هو سعيه في مساعدة الآخرين، وأن هذه الوسيلة التي أودعها الله في الإنسان أفكارا ومشاعر تحفظ الإنسان من التهلكة والعذاب.
وتفكر الملك في حاله، وتذكر ما ناله في اختياره، أنا الملك البالغ العاقل قد عنيت متى أنزلت إلى الدنيا إنسانا، فقيض لي ذلك الإسكافي السخي وأنجاني من القر والجوع وما وراءهما من هلاك محقق، وأنا إذ رفضت قبض روح أم اليتيمين عطفا عليهما من الضياع في الدنيا، لم أفقه براعة الله في تسيير أمور الناس، ودفعني جهلي إلى عصيانه، أو يقيض الله لي من يعينني ولا يقيض لهما من يعينهما؟ وهنا جاءه الرد من الملكوت بصحة الأجوبة كلها ونجاحه في اجتياز امتحانه.
ولا بد لنا من وقفة مع بعض ما ذكر في هذه التدوينة الموجزة عن هذه الرواية العظيمة، بدءا بأننا لا نؤمن باحتمالية وجود ملك يعصي ربه، فهذا خلل عقائدي لاحب، وقد قال الله -سبحانه- في الملائكة "لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (التحريم -6).
ولكننا نستقي من هذه الرواية ما استقر في وجداننا من الخير واتفق مع عقيدتنا الوثيقة، وهي أن الإنسان محجوب عن معرفة ما تحمله الأقدار بين طياتها. وننبذ وراءنا ما وجدناه من الغلط. وقد دأب المؤلف ذو الصيت الشائع والقلم الماتع في عمله هذا على بذر حب الخير في الإنسان، ولفت انتباهه إلى أهمية مساعدة الآخرين ولو بالبسيط اليسير الممكن، وحذرهم من الكبر واكتناز الأموال والنعم، وعاقبة ذلك على أرواحهم وخواتيم أعمالهم وعاقبتهم.
أما كاتب هذه الرواية نفسه، فقد بان منه صدق مقولته، إذ كان في فترته أوسع كتاب عصره مبيعا وشهرة، إلا أنه آثر إنفاق كل ما في ملكه على الفقراء قبل موته، وقضى وحيدا فقيرا على سكة حديد باردة في موطنه.
وقد ألمح بعض النقاد التاريخيين أن تولستوي قد اهتدى آخر عمره إلى الإسلام وسلم له واعتقد به، فرحم الله هذا الأديب الجليل، وعلمنا الله أن نكون مفاتيح للخير مثل الإسكافي صاحب النفس الطيبة، ومغاليق للشر على نقيض الثري الفخور، باذلين ما اتسعت له قدرتنا لنجعل من وقتنا في هذه الدنيا وقتا يستحق خلودا لاحقا في النعيم.