شعار قسم مدونات

الحرب إذ تصيغ التفكير الجمعي للأفغان

تصنف أفغانستان من الدول المرشحة لأن تكون غنية نظرا لوفرة الموارد الطبيعية وتنوعها (الجزيرة)

ظهرت خريطة أفغانستان الحديثة في نهاية القرن الـ19 الميلادي، ونظرا لأنها أرض مغلقة لا تطل على بحر فإنها تعتبر منطقة عازلة بين بريطانيا العظمى التي كانت تستعمر شبه القارة الهندية وروسيا القيصرية التي كانت تستعمر وسط آسيا ومن بعدها الاتحاد السوفياتي، إلى أن انتهت الحرب العالمية الثانية وبدأ صراع أميركي روسي محموم عليها لم ينته بعد.

ثروات وقيم

تصنف أفغانستان من الدول المرشحة لأن تكون غنية نظرا لوفرة الموارد الطبيعية وتنوعها، والتي لم تستثمر أو تستغل خلال العقود الأربعة الماضية، والتي تقدر قيمتها بنحو 3 تريليونات دولار، تضاف إلى خصوبة الأراضي الزراعية ونشاط الفلاح الأفغاني وجديته، علما بأن نحو 73% من الأفغان يعيشون في الريف.

لكن الإمكانيات الضخمة التي تمتلكها أفغانستان تحول دون استثمارها عوائق كثيرة، أهمها: عدم الشعور بالاستقرار، ونقص حاد بالكوادر المحلية المؤهلة، وصعوبة الواقع الأفغاني بالنسبة للمستثمر الأجنبي، على الأقل من حيث عدم توفر تسهيلات الحياة وانعدام الرفاهية والهواجس الأمنية، وضعف الخبرة الأجنبية في الشأن الأفغاني عموما، والتعامل مع الشعب الأفغاني وثقافته بشكل خاص.

لا يزال الأفغان على اختلاف أطيافهم يحافظون على قيم الكرم والشجاعة والنخوة، ولديهم حساسية بالغة عندما يتعلق الأمر بالدين والقومية، ولم يتأثروا كثيرا بالثقافة الغربية رغم كل ما بذل من جهود أو تعرضوا له من غزو ثقافي غربي وشرقي خلال العقود الأربعة الماضية.

ولدى الأفغان شعور قوي جدا بالانتماء للأمة الإسلامية، ويعتقدون أنهم ضحوا كثيرا من أجل هذا الانتماء، إضافة إلى مشاعرهم القومية واعتزازهم باستقلالهم، وحساسيتهم الكبيرة تجاه التدخل في شؤونهم الداخلية، خاصة ما يتعلق بالقضايا السياسية ونظام الحياة والتقاليد المجتمعية، ويعتبرون أي تدخل في هذه الشؤون خرقا للسيادة الوطنية.

تداعيات اجتماعية للحرب

في المقابل، تركت الحرب بصماتها في سلوك الشعب الأفغاني على مستوى النخب والعامة، فقد برزت ظواهر سلبية اجتماعية كبيرة عززها انتشار الجهل والأمية، وأبرز هذه المظاهر:

  • الاعتماد على المساعدات الخارجية، إذ يسود شعور واسع بأن تقديم الدعم الإنساني واجب على غير الأفغان ومستحق لهم بغض النظر عن مدى الحاجة أو المكانة الاجتماعية لمن يتلقون المساعدات، وبغض النظر عن الجهة التي تقدم المساعدات ودوافعها، مثل مشاعر الأخوة الإسلامية من إخوانهم المسلمين أو مشاعر إنسانية من قبل غير المسلمين من هيئات دولية، أو المؤامرة على الشعب الأفغاني والتجسس من خلال تقديم المساعدات.
  • هناك مقولة غربية لها من الواقع ما يصدقها، وهي أن الأفغان ينظرون للآخر بـ3 محددات، ويختصرونها بالإنجليزية (Aid, Trade or Raid) والتي تعني تقديم العون للأفغان، وإن لم يكن فمشاركتهم من خلال تجارة أو غيرها بحيث تحل لهم منفعة مباشرة، وإذا لم تقدم لهم المساعدة ولم تشاركهم في المشروع فانتظر الإغارة عليك وعلى مؤسستك.
  • سهولة اللجوء للعنف والاستخفاف بالحياة، يعزز هذه الظاهرة روح البسالة والحمية عند القاتل واستشعار الشهادة للمقتول، فكل من يقتل بالسلاح يصنف شهيدا، وهو ما يفسر سهولة رفع السلاح في وجه الآخر.
  • التفسير التآمري لأي حدث أو خلاف، وبذلك من الطبيعي أن يعقب النزاع ردود فعل عنيفة، إذ تهيمن على الذهن عند الاختلاف الشكوك في الولاء والخيانة والتكفير، ويشمل التعامل مع الأجنبي والمحلي على حد سواء.
  • انعدام القدرة على التخطيط، فالأفغان لم يعتادوا على التخطيط المستقبلي، سواء ما يتعلق بالمشاريع الخاصة الصغيرة والحياة العادية أو المشاريع الكبرى والنظرة المستقبلية للبلاد، لذلك فإنهم كثيرا ما يحتاجون إلى من يساعدهم في هذا المجال، فمثلا تجدهم عند المساعدات الأجنبية يفضلون الإغاثة العاجلة المرتبطة بتقديم الغذاء والخيام والملابس، وعند المشاريع تراهم يصرون على ضرورة تسليمهم الأموال لكي يصرفوها على المشروع وفق ما يرونه مناسبا دون دراسة مسبقة، ويخلطون بين التشكيك بالثقة بهم والحاجة إلى إعداد ميزانية مدروسة للمشروع.

لقد تحول طلب المساعدات عند كثير من الأفغان إلى ابتزاز عاطفي، وساهم في تطور هذه الحالة أوضاع التشرد التي عانى منها أغلبية الشعب الأفغاني، حتى أن الهجرة الأفغانية اعتبرت الأكبر في القرن الـ20 بعد الهجرة الفلسطينية، وأصبح جميع اللاجئين في الدول المجاورة يعتمدون بشكل شبه كلي على المساعدات الأجنبية.

العرقيات والمظلمة

ضمت أفغانستان الحديثة بين نهر جيحون (دريا آمو) في الشمال وخط ديوراند في الجنوب أكثر من 14 عرقية، تتقدمها عرقية البشتون التي يعيش أغلبية من ينتمون إليها في مناطق الجنوب والشرق، وتقدر نسبتهم وفق دراسات دولية بنحو 45% من بين مجموع عدد السكان الذي يبلغ 38 مليون نسمة.

تليها عرقيتا الطاجيك والهزارة، ويتحدث أتباعهما اللغة الفارسية، غير أن الهزارة ينتمون إلى الطائفة الشيعية، وهناك قلة ممن يتبعون الطائفة الإسماعيلية خلافا للأغلبية الساحقة من الشعب الأفغاني التي تتبع المذهب السني الحنفي.

يجادل زعماء الأعراق التركمانية من أزبك وتركمان وإيماق وقرغيز وغيرهم بأن نسبتهم الحقيقية أكبر بكثير مما هو معلن، وأنهم تعرضوا للظلم من قبل المجتمع الدولي والحكومات الأفغانية المتعاقبة، ولم ينالوا حقهم في التنمية والتعليم، لكن ما يؤكده كثيرون من مثقفي العرقيات التركمانية أن سبب عدم إنصافهم هو انتشار الأمية وقلة التعليم بينهم مقارنة بالطاجيك الذي اهتموا بالتعليم في وقت مبكر والهزارة الذي حصلوا على نصيب وافر من الاهتمام الدولي في العقود الأخيرة، ورعاية إيران وتشجيعها لهم على الاهتمام بالتعليم.

لقد وظف الشيعة الهزارة ما يعتبرونها مظلمة تاريخية لدى المؤسسات الدولية، خاصة مؤسسات حقوق الإنسان، واستمر تعاطي دور الضحية حتى في قمة مشاركتهم في السلطة إبان حكم الجمهورية السابقة، إذ مُثلوا على مدى عقدين بنائب للرئيس وحصة كبيرة من المناصب الوزارية، ومُنحت لهم فرص تفضيلية في الوظائف والبعثات التعليمية وامتيازات لم تتح لهم في تاريخ أفغانستان.

أما عرقية البلوش فقسمتها الجغرافيا السياسية بين أفغانستان -خاصة ولاية نيمروز في الغرب- وإيران وباكستان، وساهمت مخططات الانفصال الأجنبية -التي تسرب بين حين وآخر لتشكيل بلوشستان الكبرى- في توجس الدول الثلاث، وبقيت هذه الكتلة البشرية مهمشة سياسيا ولم تتبلور لها شخصية قومية.

أثر الهجرة والتشرد

لعل وصول طالبان إلى السلطة في أفغانستان أسعف كثيرا من البشتون وجعلهم يشعرون باستعادة السيادة التي اعتقد قسم منهم بأنهم فقدوها خلال العقدين السابقين، فعلى الرغم من أن الرئاسة لم تخرج من أيديهم فإنهم لم يكونوا راضين عن المحاصصة في السلطة بين مختلف الأعراق حتى باتت مقولة "أقلية في وطننا" معتادة في الأوساط البشتونية.

أما عرقية الطاجيك -التي تعرف بأنها الأكثر تعليما في الأوساط الأفغانية، مما جعل الحكومات السابقة تعتمد عليها في الوظائف البيروقراطية- فقد شعرت بأنها حققت مكاسب تاريخية في حقبة الجهاد ضد السوفيات، ومكنها التعاون مع الولايات المتحدة ضمن تحالف الشمال من الوصول إلى السلطة، لكن سوء إدارتها للمناصب والأموال أدى إلى انتكاستها ثانية، وفتح المجال أمام الترحيب بعودة طالبان على أنقاض الحكومة التي كانت ضليعة فيها.

وأمام ضياع المكاسب العرقية المحدودة على حساب المشاعر القومية بات تفكير المواطن الأفغاني ينصب على تفضيل الاستقرار مع حكم طالبان على العودة للاضطراب الأمني والسياسي، على الأقل في الوقت الحالي.