واقمري غرّد ما عليك من هم
كما يدفع شبح الفقر كثيرين إلى الاغتراب، كان لليمني في حقبة ما حظ الأسد من هذه الظاهرة الاجتماعية البائسة، ولقد ظل صوت أولئك المعذبين مكبوتا حتى ألهم الشعراء فعبّروا بإحساسهم العميق عن الأثر السيكولوجي للظاهرة، ليس على المغترب فحسب، بل على من يركنهم خلفه عرضة للألم والفقد والحرمان. برز ذلك الصوت في العقود الماضية وناقشه وسلط الضوء عليه كثير من النقاد والأدباء والمهتمين بالشأن الفني ولا سيما المتعلق بالإنسان: ظروفه ومعاناته وقضاياه باعتبار الفن ومختلف رسائله ناقدا للحياة.
ومن البدهيات عند دراسة هذا اللون الفني اليمني أو مذاكرته والحديث عنه أن نقف على الثنائية الغنائية التي رافقت الفن في تلك المرحلة وكان لها دور بارز في نجومية كثير من الفنانين والشعراء، وعند قولنا "تلك المرحلة" تشير سبابة الزمن إلى حقبة ما قبل الثورة اليمنية في 26 من سبتمبر/أيلول وبعدها، إلى الواقع الذي ألقى بظلاله السوداء على البسطاء وعكّر صفو حياتهم فدفع بعضهم إلى مغادرة الوطن في اغتراب قاس وهجرة مجهولة المصير.
سبق أن قدّمت قراءة تحليلية لواحدة من القصائد المغناة في هذا المجال، وكيف أن عددا من الشعراء مرفقا بالصوت الغنائي استطاع إيصال أنين وإحساس المرأة التي ألمّت بها مقامع الاغتراب بالمقام الأول في مرحلة كان يكبت فيها كل شعور أنثوي، وفي هذه القراءة المبسطة شدّت انتباهي قصيدة "واقمري غرد" للشاعر الكبير محمد عبد الباري الفتيح، أبرز شعراء القرن الماضي، وأحد مؤسسي اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين، من مواليد المعامرة في ريف قدس بمحافظة تعز، في ثلاثينيات القرن الماضي، ونحن في غنى عن التعريف بشاعرنا الراحل الفتيح فضلا عن أنه ليس موضوع هذه القراءة، لكن باختصار يعدّ الفتيح من أبرز شعراء القصيدة المغناة وذات البعد الإنساني.
وهنا في هذه القصيدة التي جاءت بشكلها العامي البسيط ولكنتها القروية البحتة؛ ذلك أن الشاعر -كما أسلفنا- كان صوتا إنسانيا يستوعب آلامه وأحزانه ويرافقه في مختلف حياته، ولا سيما صوت المرأة الذي غيّبته التقاليد ولجمته الأعراف وأخرسه الواقع المؤلم آنذاك؛ في هذه القصيدة لا أعلم إذا كان الشاعر قد أبرم اتفاقا مع الفنان عبد الباسط عبسي، البلبل المغرد على الشدو بهذه الأبيات أم لا؟
واقمري غرّد ما عليك من هم
خلك معك وانته بقربه تنعم
مش مثلي أتجرع كؤوس علقم
سقيم بحالي .. بس ربي يعلم
يبدأ الشاعر في مطلع القصيدة بأسلوب تشخيص خيالي يعكس عمق إحساسه فيخاطب طائرا شجيا يسمى باللهجة العامية (قمري) مستعيرا له صفة الإنسان، مستغربا سبب هم الطائر المحتمل الذي لا يجد له الشاعر مبررا ما دام يعيش في كنف خليله؛ ليس عليك أيها الطائر من هم أو أسى إن شدوت وغنيت، محاطا بنعيم العائلة ودفء الأسرة، وهنا تبرز آلام الاغتراب وافتقار المرء إلى الجليس والأنيس وأن النعيم ملخص بالقرب والعيش مع الأحبة وفي كنفهم؛ غنّ فلست مثلي مقيدا يقمع جموحك الوجد، "أتجرع" لفظة مشبعة بالمرارة والألم، أي أشرب بقسوة ومرارة، مكرها أخاك لا بطل، مصوّرا حالته إزاء ذلك بوصفين أحدهما حقيقي فقط في حين يبدو الآخر متكلّفا: "سقم بحالي بس ربي يعلم"، أي إنني أتظاهر بالقوة والاستقامة وأتكلف الراحة لكن الله وحده يعلم معاناتي. هكذا شكل المقطع الأول من هذه القطعة الأدبية لوحة رومانسية يغلب عليها طابع الشعور بالحرمان والحزن والألم، فالشاعر تحدّث بصوت أنثوي مكبوت، بدليل أنها خاطبت البلبل حين لم تجد من يتفهم مشاعرها وإحساسها، وفي مخاطبتها البلبل إيحاء بأنها كانت قروية تحترف المزارعة.
أشكي بعاد خلّي أيحين شاشوفه
لمن ترك وردة خيار قطوفه
المقطع الثاني يأتي أصدق بوحا وعمقا وإحساسا: أشكي بعاد خلّي أيحين أشوفه لمن ترك ورده خيار قطوفه؛ صباح مساء أحلم ولو بطيفه، يا قمري والخل ما ذكر أليفه، إن سر معاناتي وانكساري يتلخص في البعد والنوى، تلك الظاهرة التي درج الشعراء على التوجع منها؛ إذ تترك المرء حبيس مشاعره ووجدانه وعواطفه، "أشكي بعاد خلي أيحين أشوفه" تركيب شعري عفوي يعكس حجم الألم والحسرة والحنين، فالتساؤل "أيحين أشوفه؟" أسلوب إنشائي يوحي بأثر البعد كأبرز عناصر الألم والبعد والتضجر، ثم يردف بتساؤل خيالي عميق الإحساس: لمن ترك هذا المغترب ورده في ذروة نضجه؟
صباح مساء أحلم ولو بطيفه
يا قمري والخل ما ذكر أليفه
استعارة تصريحية جميلة في طيات استفهام مثير للدهشة، تاركا السؤال مشرعا من دون إجابة؛ إذ لا إجابة مقنعة تستطيع تسكين روع قلبها المكلوم، وتصوير نفسها بالورد تشبيه لطيف يعكس ألم الاغتراب؛ إذ يضطر المرء إلى ترك أغلى وأعز ما لديه عرضة للحنين والشوق والمأساة، إضافة إلى ما فيه من تأنيب لضمير المغترب الذي لا يبالي بترك جمال أحبته يذوي صباح مساء..
في هذا البيت تظهر مفارقة أليمة بين قلبين وعاطفتين إحداهما تعاني تجاهل الأخرى وغيابها؛ ففي الوقت الذي يتملكها الحنين طوال يومها يكون خلّها في المقابل متجاهلا أو ربما غائبا لا يكلف نفسه عناء ذكرها: "ما ذكر أليفه"، فأصدق كلمة في التعبير عن مدى العلاقة بين قلبين "الألفة" لم يقل "حبيبه" أو "خليله" لكنه اختار لفظة "أليفه" لما تحمله الكلمة من دلالة قوية على تمكن العاطفة في الروح.
يأتي المقطع الثالث أكثر انفعالا وتعبيرا عن ألم الاغتراب: "نيسان هيّجني وأشعل كياني، والشوق يضني والفراغ براني".
ماله الحبيب؟ يا هل ترى نساني
يا ليته يدري بالذي أعاني
اختار الشاعر شهر نيسان على لسان تلك الأنثى التي تعاني ألم الفراق والبعد ولفحة الحنين؛ لما يحمله هذا الشهر من طقس دافئ ونهار طويل وهو الموافق شهر أبريل، شهر البذار وفلاحة الأرض. نيسان هيّجني.. يتضح في هذا التعبير الاستعاري أثر الفقد والشوق باستعمال لفظة "هيجني" وهي استعارة توحي بمدى ما يتركه الفراغ من سأم وملل وتضجر حين يكون المرء وحيدا ويحتاج بالضرورة إلى أنيس وجليس يحتوي عواطفه ومشاعره، فهو تركيب ذكي يوحي بقوة شاعرية الشاعر وعمق إحساسه وبعده الإنساني، وإيجاز لغوي رائع يعكس صوتا عاطفيا مشتعلا، الشوق يضني.. (يضني: يتعب وينهك)، ويعطف عليه مصابا آخر: "الفراغ براني".. (براني: أنحلني وهدّني)، والبيت يعكس أثر الاغتراب النفسي والجسدي عليها؛ فطاقة التحمل تكاد تنفد وعلى مخاطبها وغائبها أن يضع حدا لمعاناتها.
ثم تتساءل باستغراب وألم شديد يحز في النفس عن سر غياب الحبيب واختفائه: ما له الحبيب يا هل ترى نساني!
"يا ليته يدري بالذي أعاني".. تقريع واستفزاز بهذين الأسلوبين الإنشائيين (الاستفهام والتمني)؛ فذلك يعطي لصوتها صدى واسعا يربك المخاطب ويدفعه إلى الإحساس بها، لم يفصح الشاعر عن معاناتها الحقيقية إذ إنها كمّ هائل من المعاناة لا يمكن حصره، فاكتفى بالإشارة إليها والتعريض.
المقطع الرابع من القصيدة بدا أخف عتابا وحدّة في الألم، وتفسيرا وتحفيزا على العودة وتحذيرا، فهي تستدعي من المخاطب التفكير بها، لذا جاءت فكرة أكثر إقناعا بعد تقديم ذلك الحشد الهائل من العتاب والألم.
والريح حلفته ونجم سحره
يقول له يكفيك اغتراب وهجرة
شبابنا شسرح يا ألف حسرة
لو ذبلت زهوره.. زهرة زهرة
للخيال الفني في هذا المقطع لغة حية تعكس رومانسية الشاعر من خلال حضور عناصر الطبيعة، فالاستعارة التمثيلية المتمثلة في تشخيص الريح والنجم بما يوحي بالتشبث والتمسك إشارة إلى الانتظار والسهر ليلا، ومن شأن هذه اللفتات إثارة عواطف المخاطب واستعطافه، ثم يردف البيت الثاني بما يشبه التحذير والتنبيه كأسلوب آخر من أساليب الاستعطاف، وتكرار كلمة "زهرة" يعكس التمسك بالحياة.
هكذا تنتهي هذه القصيدة التي برزت فيها ظاهرة الاغتراب بآثارها القاسية التي تخلّفها في نفس الإنسان بعد أن جسّد الشاعر فيها صوت وإحساس المواطن اليمني والريفي والمرأة على وجه الخصوص، إلا أنها لا تزال مخيّمة وبشكل أوجع وأكثر حتى اليوم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.