شعار قسم مدونات

"كل ما قاله أرسطو باطل".. الفيلسوف البروتستانتي الذي حارب أرسطو حتى قُتل

الأديب والفيلسوف الفرنسي بيتروس راموس (مواقع التواصل الاجتماعي)

كان الشغل الشاغل في حياة الأديب والفيلسوف الفرنسي بيتروس راموس أن يحطم أرسطو، ولهذا جعل موضوع رسالته لنيل الماجستير سنة 1536 البرهان على صحة العنوان "كل ما قاله أرسطو باطل".

لقد آل على نفسه أن يخلع نير أرسطو، إذ رأى فيه حكم رجل واحد دام نيفا و3 قرون، لا على أمة واحدة فحسب بل على أمم كثيرة، لا على الجسد بل على العقل، بل كاد يبسط سلطانه على الروح، وكان ناقدا صريحا للفلسفة الأرسطية التي كانت في ذلك الوقت الفلسفة الرسمية في الجامعات الأوروبية.

اشتهر بيتروس راموس -هذا اسمه باللاتينية، واسمه الفرنسي بيير دي لا راميه- بتحدي أسبقية أرسطو بلا منازع في المناهج الجامعية في العصور الوسطى. وكان "الثائر الفرنسي" مهتما بجعل التعليم أكثر فائدة من خلال إصلاح مناهج كلية الآداب.

وعلى الرغم من أنه كان معروفا بمناهضة أرسطو في عصر النهضة، فإنه ألقى باللوم على المعلقين القدامى والعصور الوسطى في إساءة تفسير أعمال أرسطو الأصلية لعدة قرون. وكان يصر على توضيح الفرق بين ما أشار إليه بـ "أرسطو الحقيقي" و"أرسطو الكاذب".

وأكد أنه لا يوجد خطر في السماح للرجال بالتفكير بحرية، لأن القيام بذلك سيوجههم في النهاية إلى الحقيقة. وقال إن ما كان أكثر خطورة هو الاعتماد على سلطة شخص آخر بدلا من ممارسة العقل للتوصل إلى فهم صحيح.

اعترض راموس على الطريقة التي تم بها دفع الطلاب الصغار إلى حفظ حقائق وقواعد منطقية لا معنى لها، وشرع في إصلاح منهج كلية الآداب، ليصبح منهجا من شأنه أن يعلّم الطلاب استخدام العقل لتعزيز معارفهم.

وتخلى عن الكاثوليكية وتحول إلى البروتستانتية عام 1561 ودعا إلى "حرية الفلسفة"، مؤكدا أن استخدام العقل سيؤدي في النهاية إلى اكتشاف الحقيقة.

وفي 26 أغسطس/آب سنة 1572 اقتحم رجلان مسلحان كلية بريسل وصعدا إلى الطابق الخامس حيث مكتب راموس. وجداه يصلي فرماه أحدهما برصاصة في رأسه، وطعنه الآخر بسلاحه، ثم قذفه الاثنان معا من النافذة. وجر الطلبة أو الرعاع الجسد الذي ما زال ينبض بالحياة إلى نهر السين وألقوه فيه، وأخرجه نفر آخر منهم وقطعوه إربا.

قُتل راموس في مذبحة القديس "بارتولوميو"، المعروفة بمذبحة سان بارتيليمي، 1572م، التي ذبح خلالها بين أقل من 5 آلاف إلى 30 ألف بروتستانتي فرنسي على يد السلطات الكاثوليكية، وزار الملك والملكة الأم والحاشية عدة كنائس في "احتفال ديني للشكر على تخليص فرنسا من الهرطقة".

حياة راموس

كانت حياة بيتروس راموس- بيير دي لا راميه- لا تقل شاعرية عن حياة لابوييتي، بيد أن موته كان أشد عنفا.

تاق وهو طفل إلى الدراسة والتحصيل، فلما أيفع طمح إلى الالتحاق بجامعة فأقعده الفقر، وحاول مرتين السفر إلى باريس على قدميه يحدوه تعطش إلى كلياتها، لكنه أخفق في المرتين وقفل إلى قريته مهزوما.

وفي 1528 التحق بخدمة طالب غني يخدمه ويشاركه حضور المحاضرات، وشق طريقه في منهج كلية الآداب العسير طوال سنوات ثمان، يخدم نهارا ويذاكر ليلا.

درس فلسفة أفلاطون، ومحاورات سقراط الحية التي تمحو "السأم من فلسفة أرسطو ومنطقه المقيت".

وبدا خلع هذا المقدوني عن عرشه في نظر الشاب المفكر أجلّ صورة من صور اغتيال الطغاة.

يقول راموس "حين جئت باريس وقعت فريسة لتدقيقات السفسطائيين، فعلموني الآداب الحرة بالأسئلة والمجادلات، دون أن يدلوني على أية فائدة أو منفعة. فلما تخرجت انتهيت إلى أن هذه المجادلات لم تكن سوى مضيعة لوقتي، ولما أفزعتني هذه الفكرة وقعت على أفلاطون ووصلت إلى معرفة فلسفة أرسطو".

ويقول "أنفقت 3 سنين في دراسة منطق أرسطو دون أن يبصره أحد بفائدة واحدة أو تطبيق واحد في العلم أو الحياة".

واتخذ موضوعا لرسالته هذه الدعوى القاطعة "بأن كل ما قاله أرسطو باطل"، والتي كان عليه أن يدافع عنها يوما بطوله أمام من تحدوه من الكلية وخارجها.

بقي ورثة أرسطو يناقشون راموس يوما كاملا قبل أن يتمكن هذا الشاب المتحمس من تحطيم هيكل ضخم، سيطر على العقل الإنساني قرونا طويلة، ويحوّل حطامه إلى درجة جامعية عليا، ثم إلى محاضرات تعود عليه وعلى أمه بأضعاف ما أنفقت عليه وهو طالب.

ثم حوّل هذا كله إلى كتابين؛ أحدهما يهجو فيه أرسطو هجاء صريحا، والآخر يقضي به على منطقه، ويضع تعريفا جديدا للمنطق تلخصه 3 كلمات، هي "المنطق فن الحديث".

أحس كهنة أرسطو في فلسفة راموس تهديدا لوقارهم، وشموا روائح "الكفر والزندقة" في كلامه، كقوله "إن عدم التصديق بداية المعرفة"، وهذا تشكك ديكارتي سابق لديكارت.

كما أنه تمنع عن القطع بصحة العقيدة، في حين كانت مناهج جامعة باريس تسيطر عليها الكنيسة الكاثوليكية وتأثرت بشدة بالتقليد المدرسي الذي يرجع تاريخه إلى أواخر العصور الوسطى.

وبعد صدور الكتابين دعا مدير الجامعة إلى محاكمة راموس بتهمة الزندقة، فانعقدت المحاكمة في باريس ودين المتهم، وصدر أمر ملكي يمنعه من المحاضرة والنشر والتمادي في مهاجمة أرسطو، وأصدرت المحكمة قرارا حاسما أرسلته إلى الجامعات الأخرى، فآثر راموس الصمت، وتحمل سخرية الأساتذة والطلاب.

ثم تولى هنري الثاني عرش فرنسا فألغى الحكم، وأطلق لسان المحكوم، فعاد إلى نشاطه، وأصبح أشهر الأساتذة في باريس.

حرية العقل

ولما عاد راموس إلى التدريس عني بأمور إدارية وتربوية لإصلاح التعليم، فطبق المنطق على اللغة، وشجع الجامعة على مساعدة الطلاب الفقراء، ودعا إلى تخفيض الرسوم المفروضة على الطلاب، فأجيب إلى كثير من مطالبه.

تم التعبير عن معاداة راموس للأرسطية بشكل كامل خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الـ15، ونشر راموس كتابه "ديالكتيك" دافع فيه عن حرية العقل في التفكير والتعبير.

ونُشرت مئات الطبعات من الكتاب بالنسخة اللاتينية، وطُبع لاحقا بالعديد من اللغات المختلفة، واعتمد في المدارس والجامعات في جميع أنحاء أوروبا البروتستانتية.

وبرهن على أن العقل هو المرجع الوحيد الذي يجب الاحتكام إليه، وبشّر "راموس" الشعوب بأن إطلاق الحرية للعقل سيرقى في قرن واحد بالعلوم كلها إلى أفق رفيع لم تبلغه من قبل.

أوصلته فلسفته إلى التعاطف مع الثورة البروتستانتية، فلما حصل "الهيجونوت" حينا على التسامح مع الحكومة، بل وعلى الاشتراك فيها، أعلن راموس اتباعه النهج الإصلاحي الجديد (1561)، وأعلن إيمانه بالبروتستانتية، وحرض الطلاب على قبولها، فصدعوا بالأمر وراحوا يمزقون الصور المقدسة.

وفي بواكير عام 1562 مزق بعض تلاميذه الصور الدينية المعلقة في كنيسة كلية بريسل، وواصلت الحكومة دفع راتبه، ولكن مركزه كان يزداد حرجا.

فلما نشبت الحرب الأهلية بين الكاثوليك والبروتستانت (1562) غادر باريس بترخيص مرور من كاترين دي مديتشي (زوجة هنري الثاني)، ثم عاد بعد عام حين سقطت معاهدة الصلح.

وقد رفض بأدب دعوة وصلت إليه ليشغل كرسيا في جامعة بولونيا، معتذرا بأن فرنسا طوقت عنقه بدين لا يسمح له بالرحيل عنها.

معركته مع الجهل

إننا لن نخطئ حين نقول إن راموس كرس حياته كلها في معركته ضد الجهل، ولكن أشد معاركه كانت حينما اشترى ألد أعدائه "جاك شاربنتييه" كرسي الرياضيات في الكلية الملكية (1565)، فهاجمه راموس وفضح جهله، فأحنق عليه هذا "الدعي المتسلق" على جدران العلم وأمثاله من أشباه العلماء.

ندد راموس بهذا التعيين، فهدده شاربنتييه، ولجأ راموس إلى المحاكم لتحميه، فأودع شاربنتييه السجن، ولكن أفرج عنه بعد قليل، واتهم شاربنتييه خصمه بتقويض أسس الفلسفة والدين.

وحاول بعضهم اغتيال راموس مرتين، فلما استؤنفت الحرب الأهلية بين الكاثوليك والبروتستانت (1567) غادر باريس ثانية. وقضت الحكومة حينها بألا يقوم بالتدريس في الجامعة أو الكلية الملكية غير الكاثوليك.

ولما وقعت مذبحة القديس "بارتولوميو" في آب سنة 1572 اغتيل راموس، وألقيت جثته في نهر السين، ثم أخرجت ومزقت تمزيقا. وعاد الجدل الفلسفي العقيم يطغى على الفلسفة في الجامعات، بعد أن انطفأت الشمس الساطعة التي أضاءت فرنسا.

هزيمة مؤقتة ونصر مؤزر

لقد بدا راموس مهزوما سواء في الحياة أو التأثير، فأعداؤه انتصروا عليه، فإن الفلسفة الكلامية التي حاربها استعادت تفوقها، ونكست الفلسفة الفرنسية رأسها حتى جاء ديكارت.

كان بيتروس راموس مفكرا إنسانيا فرنسيا مؤثرا، وعالم منطق، ومصلحا تعليميا، وكان كاتبا لامعا وفعالا، وكانت محاضراته شهيرة، اجتذب خلال مسيرته عددا من الأتباع المخلصين، وأثرت أعماله على مناهج العديد من الجامعات الأوروبية، حيث اكتسبت كتبه شهرة رائعة في القرنين الـ16 والـ17.

وبعد أن هاجم أرسطو واتهمه بوضع أخلاق مستقلة عن الدين، انبرى له "المفكرون الأحرار" يردون عليه، فانتشرت آراؤه في ألمانيا وأسكتلندا وسويسرا، وصار له في هذه البلدان أتباع وخصوم، وكان في طليعة الحاملين على المعلم الأول، الشانئين للمنطق الصوري، وسيردد مثل أقواله جميع فلاسفة القرن الـ17.

لقد كان القرن الـ16 أحد أغنى الفترات الأدبية في بلاد الغال وأكثرها تنوعا، وشهد هذا القرن انتهاء العصور الوسطى وولادة النهضة في فرنسا، وهي تلك الفترة التي نازعت فيها حركة الإصلاح الديني حركة إحياء العلوم رغم أنها ارتبطت بها بادئ ذي بدء.

وإذا كانت الفلسفة لم تحرز في هذه الحقبة إلا كسبا ضئيلا، فإن الخطوات التي خطاها العلم كانت خطيرة، حيث بدأ العلم الحديث أولى خطواته، وتغير منظر العالم كما لم يتغير قط من قبل في التاريخ المدون.

يقول ويل ديورانت في الجزء الـ27 من قصة الحضارة "كان كل شيء يجري متدفقا إلا الكنيسة. ووقفتْ حينا وسط هذه الثورة حائرة مشدوهة، لا تكاد أول الأمر تدرك خطورة الأحداث، ثم تصدت في عزيمة وتصميم لذلك السؤال الخطير الذي قابلها: أمن واجبها أن تكيف تعاليمها وفق مناخ الأفكار وسيولتها الجديدين، أم تقف جامدة وسط جميع التقلبات؟".

وكان جوابها عن هذا السؤال هو الفيصل في تاريخها الحديث.

 

المصادر

  • تاريخ الفلسفة الحديثة- يوسف كرم.
  • قصة الحضارة: ويل ديورانت.
  • الوجيز في قصة الحضارة: الدكتور غازي طليمات.
  • فلسفة العصور الوسطى- موسوعة ستانفورد للفلسفة- ترجمة: ناصر الحلواني.
  • تاريخ الأدب الغربي: تأليف نخبة من الأساتذة المختصين- دار طلاس.
  • مواقع إلكترونية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.