الخط الثالث.. والثورة الاجتماعية المتجددة

الثورة التونسية تفجر طفرة ثقافية وفكرية
الثورة التونسية تفجر طفرة ثقافية وفكرية (الجزيرة)

إذا ألقينا نظرة سريعة على الواقع الأفريقي، نرى الفقر والجهل منتشرا بشكل رهيب، وتعاني تلك البلاد من صراعات قبلية وإثنية دامية رغم أنها دول تملك ثروات كبيرة وضخمة قادرة على جعلها في الدول المتطورة، فعلى سبيل المثال "رواند" تلك الدولة التي حصل فيها مجازر من أبشع المجازر في العصر الحديث سنة 1994؛ حيث تقاتل الهوتو والتوتسي، ومات ما يقارب من مليون إنسان، والسودان تلك الدولة التي تُعد السلة الغذائية للدول العربية بسبب امتلاكها أراض زراعية واسعة جدا وثروة حيوانية ضخمة، إلا أن الشعب السوداني يعاني من الجوع وقلة التغذية.

وهذه الأمثلة تحتاج إلى قراءة علمية من ناحية العلوم الاجتماعية، يقول الفيلسوف الألماني هيغل:

"إن الإنسان أسير أفكاره لمدة 100 عام"

وهنا مكمن الفرس كما يقال، حيث إن كل الدول العربية كانت فريسة الاستعمار لمدة غير قصيرة، فالاستعمار لم يقتصر على احتلال الأرض واستغلال الموارد، إنما سعى لتجهيل المجتمعات وزرع الشقاق بين أبناء المجتمع الواحد، فلقد تعرضت المنطقة إلى سيطرة فكرية وهي جزء من صراع الشعوب والأمم، وتشربت من المفاهيم الخارجية وتم ترسيخ ثقافة المحتل من خلال الإرساليات والمدارس والشركات العابرة للقارات وغيرها، وهكذا أصبحت مجتمعاتنا أسيرة المنتج الفكري الغربي، وهنا بدأ الصراع بين المطالبين بالحداثة الغربية وبين التقليديين، ولكن من يطالب بالحداثة كانت بداية رحلته نقض التراث ونسفه وتشويهه، بينما كان التقليديون يناضلون من أجل الحفاظ على التراث من دون قراءة نقدية وجعله طوباويا نوعا ما.

وكما قلنا في المقال السابق "الخط الثالث.. ثقافة حياة" إن الخط الثالث هو البحث عن حلول غير التقليدية والخروج عن المألوف إلى غير المألوف الإيجابي، حيث نستطيع تحقيق الحداثة الإنسانية مع الحفاظ على موروثاتنا وتاريخنا، فكل أمة لها إبداعاتها الإنسانية ولها سقاطاتها الحضارية، فلها ما لها وعليها ما عليها، فالخط الثالث يقوم على قراءة التراث والتاريخ بطريقة علمية وموضوعية وبطريقة نقدية منهجية كي نتجنب أخطاء الحاضر والمستقبل، ولكن الهدف هو الحفاظ عليه وإظهاره كما يجب أن يكون لا كما يريده البعض، فهذا ما تعاني منه الأمة اليوم وهي الحداثة التي يكون ممرها الإلزامي عبر تدمير وتشويه الإرث الحضاري.

إعلان

وتعاني الأمة من ثقل الموروثات الثقافية القديمة، لذلك لا بد من عرض الثورة الاجتماعية المتجددة التي تقوم على ثقيف الأجيال كي تقوم بعملية فلترة المنتوجات الفكرية الخارجية بطريقة تفاعلية، فعلى سبيل المثال نأخذ النموذج الياباني، حيث الدولة حافظت على تقاليدها وأصبحت دولة متطورة جدا، فدمجت الحداثة مع الموروث وعرضت الثورة الاجتماعية المتجددة؛ حيث تقبلت العلوم الخارجية ولفظت التبشير والتغريب وأبقت التراث الياباني والثقافة حتى يومنا هذا.

إننا جميعا نخشى العولمة وعلى رأسها العولمة الثقافية التي تجتاح عالمنا من خلال الإنترنت والمواقع التواصل الاجتماعي والأفلام والمسلسلات ومن الثياب والتكنولوجيا وغيرها، ولكن لا نستطيع أن نمنع تلك الحالة من الدخول إلى بيوتنا وإلى حياتنا وإلى أطفالنا، ولا يمكن أن نلوم السارق إذا كانت أبواب بيوتنا مفتوحة له، ومن هذا المنطلق يجب أن نعزز من وجودنا الحضاري والإنساني والفلسفي واللغوي ومناهجنا التربوية التي تزرع في نفوس أطفالنا الثقة بالنفس وبلغتهم وهويتهم الثقافية والتاريخية.

إن تاريخ أوروبا مليء بالدماء والحروب والظلام، ولكنهم لم يتنكروا لتاريخهم، إنما يقومون بقراءة نقدية وليست "نقضية"، وهذا تماما ما يجب أن نفعله، فإن الخط الثالث يهدف إلى الاستفادة من التاريخ وليس التخندق فيه وتعزيز الهوية من أجل التصدي للعولمة الثقافية ليس عبر الانعزال؛ إنما عبر التفاعل، وهكذا نكون قد حققنا الثورة الاجتماعية المتجددة والدائمة. إن هذه الثورة تهدف إلى تجديد روح الأمة وجعلها فتية وقادرة على أن تتصدى لكل التحديات.

لن تستقيم السياسية بدون الإصلاح الاجتماعي، والإصلاح الاجتماعي يكون بعرض التجديد مع الحفاظ على الثوابت من خلال الثورة الاجتماعية المتجددة التي يكون نبراسها التنوير وإعادة الثقة بأنفسنا وبأمتنا وبتاريخنا وتحويل عقولنا إلى عقول محللة ومنتجة وغير مستهلكة للأفكار البالية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان