لا أحسب أن أحدا يصوم كما يصوم المسلمون -وليس في ذلك أي منٍّ على الله تعالى- فلا يخلو شهر من صيام نافلة بل إن شئت فقل: لا يخلو أسبوع من الصيام، فهذا صيام الاثنين والخميس، وهناك صيام الأيام الثلاثة البيض، وهناك الست من شوال وعشر ذي الحجة، وأول المحرم، وشهر شعبان، وخير الصيام صيام نبي الله داود، وقد صحّ عند مسلم من حديث عبد الله بن عمر «صُمْ أَفْضَلَ الصِّيَامِ عِنْدَ اللهِ صَوْمَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا».
هذا فضلا عن شهر رمضان الذي خصه الله بالصيام المفروض، حيث قال تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
والسؤال هنا:
هل هناك من حكم وأسرار للصيام؟
والحق أنه ينبغي قبل النظر والبحث عن الحكم -وما أكثرها- أن ندرك أن العبادات الأصل أن نأتي بها لأن الله أمر بها، قال الشاطبي: الأصل فيها -العبادات- التعبد دون الالتفات إلى المعاني… (الموافقات (1/ 440). وهنا تظهر العبودية الحقة لله سبحانه، ويحقق العبد ما وصف الله به الصحابة في قوله {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
لكن هذا لا يمنع أن يكون للصيام حكم ومقاصد وأسرار، ومنها:
- تحقيق تقوى الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] فالامتناع عن الطعام والشراب والشهوة، وطاعة الله تعالى، كل ذلك جدير بتحقيق تقوى الله تعالى، وقد ختم الله آخر آيات الصيام بقوله {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]
- تحقيق الإخلاص، والبعد عن الرياء: فالصائم يترك كل شيء وهو قادر على إتيانه، فهو يصوم وبجواره شهي الطعام وبارد الشراب، وامرأته أمام عينيه، روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي".
- التذكير بالغاية من خلق الإنسان: والتي هي العبادة، قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فالمسلم بصومه يتذكر الغاية الأولى، والهدف الأسمى، وينسلخ من كل عبودية، وقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم عبادة الشهوات، فقال فيما رواه مسلم عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ..".
- قهر الشيطان وإرغامه: وذلك أن وسيلة الشيطان الكبرى لإغواء بني آدم هي الشهوات، وإنما تقوى هذه الشهوات بالطعام والشراب، والصيام يقلل هذا، قال ابن رجب: الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان.. (لطائف المعارف لابن رجب، ص: 155).
- الشعور بنعم الله: فالجوع والعطش يظهِران نعم الله على خلقه، والتي قال عنها {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وقد أشارت آيات الصوم إلى شكر الله تعالى حيث يقول ربنا {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
- تذكير المسلم بإخوانه من الفقراء والمساكين: فالجوع والعطش يشعران المسلم بفقر الفقير، وضعف المسكين، وحاجة المعوز، والمطلوب الرحمة بهم {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء: 36] وقد سئل بعض السلف: لِمَ شُرِع الصيام؟ قال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع.
- تقوية الجانب الخلقي عند المسلم: فالمسلم يرقى بأخلاقه حين يصوم، وفي الصحيحين ".. وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ " وفي رواية "الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، مَرَّتَيْنِ".
- توحيد مشاعر الأمة: فالأمة كلها تصوم في يوم واحد، ووقت واحد، يجمعها الهلال صياما، والفجر إمساكا، والمغرب طعاما وشرابا، والعيد أنسا وفرحا..
- صحة البدن: روي في بعض الآثار "صوموا تصحوا" وهو إن لم يصح سندا فإن العلم يؤيده، والطب يؤكده، وعند الترمذي «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ. بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ».
أسأل الله أن يتقبل منا الصيام والقيام وصالح الأعمال..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.