تمثل الثورة الرقمية الحديثة أهم معالم الحضارة المعاصرة التي بسطت مظاهرها على شعوب العالم أجمع، فالتحولات البنيوية الناجمة عن التطورات المتتابعة في عالم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمعاملات الإلكترونية كرست جملة من التغيرات الجوهرية في البناء المؤسساتي للمجتمعات الحديثة ووظائفها الحيوية، فطالت العديد من القطاعات الإستراتيجية المهمة، كالاقتصاد والتجارة والإدارة والتعليم والعلاقات العامة والإعلام والاتصال والأمن.. إلخ.
وبرزت إزاء ذلك العديد من المفاهيم والحقول المعرفية الجديدة والمعاملات الرقمية التي ترتكز في فلسفتها على المعطى الرقمي والإلكتروني في هيئة معلومة أو منتج أو خدمة أو سلعة أو برنامج أو إدارة أو تجارة رقمية.. إلخ، وهو يجعلنا نؤكد على أننا نتجه أكثر فأكثر نحو نمط جديد من التشكل المجتمعي والهندسة السلوكية لكافة مظاهر التعامل البشري.
الجامعة في قلب التحولات العاصفة
وإزاء هذا التحول السوسيو-اقتصادي والثقافي تقع الجامعة في قلب هذه التحولات العاصفة باعتبارها رقما أساسيا في معادلة التنمية، إذ تمثل مركز إشعاع معرفي وحلقة وصل بين المجتمعين العالمي والمحلي، فهي تضطلع بدور ريادي في خضم هذه التحولات، ولكي تحافظ على موقع الصدارة تنمويا ومعرفيا تحتاج إلى تطوير مقاربات تنظيمية وممارسات بيداغوجية وإدارية جديدة تنسجم مع حجم وسرعة التحول الكائن في بيئتها الاجتماعية والتكنولوجية، لتتمكن من مواكبة سيرورة التحديث المتسارع والاندماج في مجتمعات المعرفة.
وفي هذا السياق، يشير الخبير في إستراتيجية التعلم بالإنجاز ريج ريفانز إلى أن "التعلم داخل المنظمة يجب أن يساوي أو يفوق التغير خارجها، وإلا فإنها لن تستطيع الاستمرار على قيد الحياة".
كما يؤكد أحد الخبراء في التطوير التنظيمي أنه "نظرا للضرورات التنافسية من السرعة والاستجابة العالمية والحاجة المستمرة إلى الإبداع وبفضل التقنيات المعلوماتية الجديدة يصبح التعلم التنظيمي السبيل الوحيد الذي يمكن أن يمنع فناء المنظمات".
وهذا القول في غاية الأهمية، إذ يشير إلى خطورة انعدام التوازن بين البيئتين الداخلية والخارجية للمنظمة، مما يعرضها للعزلة والانكماش، فالكفاءة الإنتاجية للجامعة وفعاليتها التنظيمية مرتبطتان أساسا بقدرتها الذاتية على تطوير أدائها واستجماعها مقومات الجودة وأدوات التنافس التي هي عنوان بقائها وارتقائها.
الجامعة والمجتمع.. الدور والمنظور
وهذا يجرنا إلى التساؤل عن أسباب انحسار الدور الريادي للجامعات العربية وضعف فاعليتها على مستوى البحث العلمي والأداء البيداغوجي الذي تعكسه المراتب المحتشمة للجامعات ومراكز البحث في العالم العربي الصادرة عن مراكز الإحصاء والمؤسسات العالمية الخاصة بمعايير الجودة والتميز الأكاديمي، كما تعكسه النسب المتزايدة لهجرة الكفاءات التي تمثل الرصيد الإستراتيجي ورأس المال البشري النازف للجامعات العربية.
يمكن القول إن أهم أسباب هذا التراجع تعود إلى التأخر الكبير في تطوير النظام التعليمي وترقية مناخ البحث العلمي والتدريس بالجامعة في شقه البيداغوجي والتنظيمي والتكنولوجي، وعدم مواكبة التقنيات الحديثة في طرائق التدريس، وهذا يرجع بالأساس إلى غياب رؤية حصيفة ومنظور سياسي راجح للاستثمار في التعليم والبحث العلمي كمحور تنتظم حوله كافة مشاريع الإصلاح والتنمية الشاملة والمستدامة، الأمر الذي أدى إلى ما يمكن تسميتها الفجوة المعرفية والرقمية بين الجامعة وبيئتها الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، فأصبحت معزولة عن النسق العام للمجتمع وذات تأثير محدود في عمليات البناء والتطوير.
ففي الوقت الذي ظهرت فيه اللوحات الذكية والآيباد والتدفقات السريعة للإنترنت وسهولة تداولها عبر الهواتف الذكية، والنظريات البنائية في التعليم التي تتناسب طرديا مع تطور ذهنيات المجتمعات الحديثة واقتصادات المعرفة وتكنولوجيات النانو والذكاء الاصطناعي وتقنيات التعليم الإلكتروني ونظريات الجودة الشاملة والتطوير التنظيمي والاستثمار في رأس المال البشري نلاحظ أن جامعاتنا لا تزال مكبلة بأنماط القرن الماضي في التدريس والتسيير، ولم تتمكن لحد الآن من تجاوز المشكلات الروتينية القاتلة، كمشكلة الاكتظاظ وتزايد أعداد الطلبة التي خلقت أزمة على مستوى كفاءة الإشراف والتأطير والمرافقة، وعدم التحكم في معايير التقييم والتقويم البيداغوجي ومعالجة ظاهرة العزوف الدراسي، ومشكلة الانتحال العلمي الآخذة في التعاظم بصورة خطيرة جدا، خاصة مع العولمة الاتصالية وتطور تقنيات القرصنة والتحوير الإلكتروني.
وهو ما يطرح إشكالية عميقة على مستوى أخلاقيات التعليم الجامعي، أضف إلى ذلك مشاكل التوظيف والأجور وتنمية المسار الوظيفي، ناهيك عن أزمة جودة البحث العلمي ونوعية التعليم والتدريب ومقاييس ضبطه وتقويمه، وغياب التوازن بين الأعداد الهائلة للخريجين -ولا سيما حملة الشهادات العليا (الدكتوراه)- وبين سوق العمل، بسبب عدم الاندماج الكامل بين مخرجات الجامعة ومتطلبات الاقتصاد والمؤسسات الصناعية والمشاريع الناشئة.
هذا مع عدم إيلاء الأهمية اللازمة لبرامج التدريب الوظيفي والتعلم التنظيمي التي ترفع الكفاءات المهنية والتعليمية للأساتذة والباحثين والقيادة الإدارية وطاقم التسيير، وتنعش البيئة الوظيفية والتعليمية وتمنع تقادم الكفاءات وظاهرة الاحتراق الوظيفي.
هذه بعض الأسباب التي أدت إلى تباطؤ وتيرة التحديث في جامعاتنا وعدم قدرتها على احتواء المتغيرات المستجدة والتأثير في محيطها الاجتماعي والاقتصادي، مما عمق الفجوة بينها وبين المجتمع، فانحسر مردودها من حيث الأداء والنتائج.
الجامعة والمستقبل.. رؤى وآفاق
إن الجامعات العربية مدعوة اليوم بإلحاح إلى الاندماج ضمن المسار التطوري للمجتمعات الحديثة، لإعادة الاعتبار لدورها الريادي في قيادة قاطرة التغيير والتطوير، وهذا يتطلب من صناع القرار والقادة السياسيين اعتماد سياسات فعالة وخطط إستراتيجية تؤهل الجامعات للتكيف مع تحديات مجتمع المعلومات وعالم التكنولوجيا والرقميات، سياسات تكون نابعة من عمق الخصوصيات المجتمعية، وتعكس استقراء موضوعيا للاختلالات والاحتياجات، وتمثل تتويجا لاقتراحات وأفكار الخبراء والتقنيين، وذلك بهدف بناء مناهج تدريسية أكثر حداثة وفعالية ومواءمة لخصوصية المجتمع ومقوماته، والعمل على تنمية أساليب البحث العلمي وترقية مؤسساته ومخابره وفرقه ومشاريعه، لتتماشى مع تطلعات المجتمع وآفاق التقدم الحضاري والازدهار العلمي.
وفي سبيل ذلك لا بد من وضع تخطيط إستراتيجي لإعادة هندسة كافة العمليات الإدارية والتنظيمية والبيداغوجية، والبدء بوضع مسار إصلاحي جديد وعدم الاتكاء على النظم المتقادمة المتهالكة والاكتفاء بترميمها وبمعالجة اختلالاتها بدعوى الإصلاح والتجديد.
وإن إعادة هندسة العمليات تقتضي الاضطلاع بإصلاحات مؤسسية وهيكلية وبشرية وبيداغوجية شاملة وعميقة تطال الفلسفة التنظيمية ومناهج إدارة المورد البشري والنظام التعليمي من حيث الوسائل والمناهج والمقاربات البيداغوجية، والعمل على ترقية مراكز البحث وتنويع مصادر تمويلها وربطها بالمؤسسات الاقتصادية والإدارية.
يضاف إلى ذلك تهيئة أقسام عصرية للتدريس بإدماج التكنولوجيات الرقمية وطرائق التدريس التفاعلي والإلكتروني والتعليم عن بعد، والعمل على تحديث المناخ التنظيمي وإنعاش البيئة التعليمية والوظيفية من خلال مراجعة أنظمة التحفيز وهندسة التكوين والاتصال المؤسسي والتمكين الوظيفي وفلسفة التسيير، ووضع آليات محفزة لاستقطاب الكفاءات والحفاظ عليها من الهجرة والتقادم والاحتراق من خلال التطوير المستدام لمهارات الموارد البشرية وتحديث أساليب إدارتها.