شعار قسم مدونات

سريلانكا.. الجزيرة التي كانت نموذجا للتسامح

blogs سريلانكا
مسجد جامع الفار - سريلانكا (مواقع التواصل الاجتماعي)

نجح أيما نجاح في استثمار مشاعر الغالبية البوذية ضد الأقليات لا سيما المسلمة، فأطاح بالحكومة السابقة عام 2019 وأعاد عائلة راجاباكسا إلى السلطة، مدعومة بغالبية برلمانية تجاوزت الثلثين، إنه الرئيس السريلانكي غوتابايا الذي استحق لقب "الرجل القوي" بعد هزيمة منظمة "نمور التاميل" عندما كان وزيرا للدفاع عام 2009.

لكن اليوم الأخير من مارس/آذار 2022 يوم فارق في تاريخ السريلانكيين، فقد حاصر آلاف المحتجين منزل الرئيس لإجباره وعائلته على التنحي، وذلك بسبب إخفاقاته الاقتصادية التي أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس، فأعلن حالة الطوارئ وفرض منعا للتجول على من حملوه للسلطة قبل عامين، فكان الحدث مؤشرا واضحا على مدى انهيار شعبية راجاباكسا بعد أن كانت غالبية شعبه تعتبره منقذا مخلصا.

وصادف الذكرى الثانية لبدء تنفيذ سياسة حرق جثث المسلمين بذريعة جائحة كورونا، فحرقت أول جثة لطفل مسلم وحرم أهله من تشييعه والصلاة عليه، وهو ما اعتبره كثير من الساسة وحكماء القوم تعنتا وعجرفة، بينما أجمعت الأقلية المسلمة على اعتبار حرق الطفل سابقة لسياسة تستهدف دينها وثقافتها.

فوبيا هجمات الفصح

لقد ركبت عائلة راجاباكسا موجة كراهية ضد المسلمين، والتي بلغت ذروتها وسط الغالبية البوذية السنهالية بعد هجمات 21 أبريل/ نيسان عام 2019 التي استهدفت كنائس وفنادق فخمة وأودت بحياة 267 شخصا، واتهم بتنفيذها 8 مسلمين.

واستند الرجل القوي في حملته الانتخابية التي أعقبت الهجمات على عاملين رئيسيين؛ العواطف التي أججها متطرفون بوذيون والبعد الأمني، واختار مدينة أنورادابورا "العاصمة البوذية المقدسة" مكانا لتنصيبه.

ويذكر غالبية السريلانكيين لغوتابايا حسمه الحرب مع منظمة نمور التاميل عام 2009، وذلك عندما كان وزيرا للدفاع في حكومة شقيقه الأكبر ماهيندا، ولم تسمح حكومة سريلانكا بإجراء تحقيق دولي في انتهاكات حقوق الإنسان التي رافقت المعارك الأخيرة في شمال وشرق الجزيرة، كما أن تحقيقاتها لم تخرج بأي إدانة لأي مسؤول ارتكب جرائم في نهاية الحرب التي استمرت نحو 3 عقود، ولم يعرف مصير كثير من المفقودين حتى الآن.

وفي المقابل وجهت الحكومة أكثر من 23 ألف تهمة للمتهمين بالضلوع في هجمات عيد الفصح، وهم 25 شخصا، وبدلا من أن ترفع المحاكمة من أسهم الحكومة فقد تلقت انتقادات كثيرة وتشكيكا بالشفافية، لا سيما من قبل الكنيسة الكاثوليكية التي استهدفت بالهجمات، وطالب رئيسها الكاردينال مالكوم رانجيت بإدراج أسماء الرئيس السابق ماثيبالا سريسينا وكبار مساعديه الأمنيين ضمن قائمة المتهمين.

تسامح وتعنت

لم تأبه حكومة راجاباكسا بآهات أسرة أول طفل مسلم تحرق جثته، وحرقت معها أكباد قلوب كثير من المسلمين الذين لم يتمكنوا من تشييع أحبائهم والدعاء لهم من بعد الطفل، ولم تعر بالا للتحذيرات من تهديد النسيج الاجتماعي لسريلانكا، وذلك بالتنكر لتقاليد جزء أصيل من المجتمع، ولم تستجب لنداءات منظمات حقوق الإنسان المحلية والعالمية التي رأت في حرق جثث موتى المسلمين وفق طقوس بوذية خرقا صارخا لحقوق الإنسان، وتنكرت للقوانين الدولية وقرارات منظمة الصحة العالمية التي لا ترى في التشييع والدفن خطرا ما دام أن المشيعين يلتزمون بالإجراءات الوقائية.

هذا التعنت الذي تعاملت معه حكومة الأغلبية لا يعكس تراث سريلانكا المتسامح مع الأقليات، ففي لقاء خاص جمعني قبل أكثر من عقدين بالسياسي الباكستاني المخضرم راجا ظفر الحق أشاد ببيئة التسامح في سريلانكا، ووصفها بأنها نموذج للتنوع والتعايش المجتمعي في جنوب آسيا.

وإذا كان أعضاء منظمة "نمور تاميل" سريلانكا -الذين يعتنق غالبيتهم الهندوسية ويتمركزون في الشمال والشرق- قد رفعوا السلاح في وجه حكومة الغالبية السنهالية، فإن الخبير في شؤون العرقيات البروفيسور كينغلسي موثوموني دي سيفا دأب على تكرار مقولته "إن جريمة مسلمي سريلانكا تكمن في نجاحهم" وإن أكثر ما يميزهم سلميتهم إلى درجة السلبية.

ويشير دي سيلفا إلى استثمار العمالة السريلانكية المسلمة في الخليج العربي لبناء مجتمعها، فتميزت عن محيطها بتحسن اقتصادها، كما تنبه قادتها إلى أهمية التعليم مبكرا فتميزوا بمؤسساتهم وتفوق أبنائهم، وسبق رجال أعمال مسلمين غيرهم في الاستثمار في زراعة الشاي وتجارته.

القوة غلبت الحكمة

كانت علمانية سريلانكا في زمن الحكمة مضرب مثل في الحفاظ على مختلف أديان ومعتقدات سكانها مجتمعين، وذلك عند مقارنة ما كانت عليه الحالة السريلانكية بأحول دول جارة مثل الهند وميانمار، وتقليد صعود التطرف العرقي والديني فيهما، وهو ما يهدد نموذج التعايش السريلانكي، وقد انتقلت عدوى أحادية الثقافة الهندوسية من الهند إلى سريلانكا التي أصبح متطرفوها ينادون بأحادية الثقافة البوذية، ويتقمصون شخصية ميانمار.

ولقد اكتشف كثير من السريلانكيين أن الخطر الداهم لا يكمن في الأقليات وإنما في التخبط الاقتصادي الذي أوصل البلاد إلى شفا الإفلاس، وهو ما جعل الذين انتخبوه بالأمس يحشدون للإطاحة به اليوم، ووجدوا أن بلدهم الصغير بحاجة إلى الحكمة أكثر من القوة، وربما لم يقرؤوا "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا".

فعندما كانت الحكمة هي السائدة قبل الاستعمار البريطاني كان المسلمون جنودا مخلصين وقادة عسكريين يحظون بثقة سادة سريلانكا وملوكها، والحسد الذي يراه دي سيلفا يشكل بداية انهيار مجتمعي، وعندها ستقسط دمعة شبه القارة الهندية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان