بعد أن قضت عائلتي المقيمة في السعودية قرابة 40 عاما غادرت لسبب ما واستقر أفرادها في عدة دول خليجية وعربية وعالمية، وتحوّل السقف الواحد الى أسقف متعددة على الأراضي المختلفة تُغطيها سماء العالم، ويجمعها ترابط الكون.
ولكي ندخل في هذه القصة بعمق أكبر نعود لقرابة عقدين من الزمان، حيث توفي حينها أبي رحمه الله حاجا بلباس الإحرام ودُفن في مكة المكرمة المكان الذي سكنه لعقود ولم يرتض عنه بدلا.
فكانت هذه لحظة الفقد الأولى الكبيرة التي مهدت البنية التحتية للقلب لتلقي بقية صفعات الحياة المتوالية بحالة أقوى، والتي دارت فيها الأيام والليالي بين الفرح والحزن في دفء العائلة الكبيرة، فلا يُمكننا في عمق الحزن أن ننسى أيام الفرح الكثيرة، فما الحزن إلا عارض تأتي بعده لحظات كثيرة فيها يُغاث الناس بهجة وحياة.
وفي الحقيقة أن هذه سُنة كونية عند الكثير من الشعوب في شتى أنحاء العالم، فقدر البشرية في غالب الأحوال التفرُق طال الزمن أو قصر، وما شكل حزني على ابتعاد أهلي -الذين كنت أجتمع معهم على طاولة طعام واحدة نتقاسم فيها جمال اللمة، ونتشارك فيها روعة الجمعة حول مائدة الحياة، وكؤوس الشاي المُترعة تدور بيننا بكل الحب والوئام- إلا نوع من أنواع الحزن التي تغشى شتى جنسيات العالم المليء بنار الاغتراب المرعبة، التي تجعل الغرباء يبحثون عن أشباههم في زحمة الحياة، ويتعلقون بهواتفهم تعلقا غريبا يدمنون فيها الاتصال بذويهم في شتى أصقاع المعمورة باحثين عن طوق النجاة فكما يقال "جيش المرء عائلته".
تجدهم يتحدثون بوفرة وشغف في كل مكان، وقد يضيق منهم ذرعا من لم يشعر بالفقد؛ لأن عائلته بجواره على مدار الساعة، فيستنكر عليهم ذلك، وكما يقال "يسخر من الجروح من لا يعرف الألم".
وصحيح أن الهجرة تفتح أبوابا كثيرة من الخيرات، فالله سبحانه وتعالى يُمدد حبله في كل مكان، ولكن ماذا عن المكان الذي عاش فيه الإنسان جُلّ عمره، وبنى فيه ذاته، وراكم فيه ذكرياته، وكوّن فيه علاقاته؟ فلا يستطيع بالتأكيد أن يمحو هذه العوالق المتأصلة العميقة، ويهد هذه الجذور العتيقة بين عشية وضحاها، فالصحابة رضوان الله عليهم عندما هاجروا إلى المدينة شدهم الحنين بعد فترة إلى مكة وعبّروا عن ذلك بدموع الشعر.
إنها إذن نار الرحيل التي تشتعل في أفئدة الجميع لتحرق الراحل والباقي في آن واحد؛ ولذلك شكّل الفراق أحد وجوه الحياة المُظلمة، ففيه تذهب الروح مع الراحلين، وتغادر النفس في حقائب المسافرين، ويبقى الجسد ضائعا في صحراء الحائرين، تحاصره أطيافهم، بينما تحمله أقدامه المُرهقة وسط السائرين.
إنه منفى المرايا التي كسرتها شلالات الدموع المجروحة، وباحة الضياع التي تُحوّل الإنسان -كما تقول أمي حفظها الله- إلى "بيتزا"، كل قطعة منها في دولة، وكل جزئية منها تبحث عن الكمال في أختها السابحة بفضاءات الكون الواسعة.
ورغم كل ذلك يبقى لطف الله حاضرا في كل زمان ومكان كما يقول ابن عطاء السكندري "كل نار تستبطن نورا"، وكما يقول جلال الدين الرومي "الجرح هو الثغرة التي ينفذ منها النور إلى أعماقك"، فالتقنية اليوم ولله الحمد قاربت المسافات بين الجميع، وأصبحت بذلك بلسما يداوي جروح الحياة. والمهم قبل ذلك أنهم جميعا بخير يواصلون في بلدانهم القريبة والبعيدة العمل والإنجاز.
وطالما أن عجلة الحياة تدور فلن نبك على اللبن المسكوب، وسنصنع الفرص من رحم الفراغ، فنحن أقوى بتواصلنا الذي يجعلنا دائما نفكر في أن "هذا اليوم هو أول أيام الحياة"، ودائما "الموعد الله"، كما قال بعض أصدقائي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.