شعار قسم مدونات

الشيخ محمد زاهد الكوثري ومقالاته

الشيخ محمد زاهد الكوثري (مواقع التواصل الاجتماعي)

عندما نظرت إلى سيرة شيخنا محمد زاهد الكوثري -رحمه الله- تحسرت على زمن كانت فيه مصر حاضنة العلماء والشيوخ، ومن بينهم الذين فرّوا بدينهم من بطش أعداء الدين؛ فقد احتضنت مصر (وكذا الشام) شيخ الإسلام في السلطنة العثمانية (مصطفى صبري) مثلما احتضنت شيخنا الكوثري رحمهما الله تعالى.

من الكوثري؟

أرى من واجبي إحياء ذكر الرجل، في ظل تتابع جيلين أو أكثر لم تسمع منه أو عنه، بل لربما تسمع من يطعن فيه وفي عقيدته ومنهجه، ويشكك في دينه، وهو أمر آلمني وحزّ في نفسي.

وهذه نبذة عامة مختصرة عن حياة شيخنا:

ولد الشيخ العلامة محمد زاهد بن حسن الحلمي الكوثري ولد في (دوزجة) الواقعة إلى الشرق من إسطنبول في تركيا الحالية أواخر عهد السلطنة العثمانية وتحديدا في (1296هــ/1878م) لأسرة أصلها من القوقاز، ونسبة الكوثري تعود إلى (كوثر) أحد أجداده.

وتلقى (محمد زاهد) الفقه في جامع الفاتح وحاز على منصب (وكيل المشيخة الإسلامية أو وكيل الدرس) وهو ما يعادل أو يوازي منصب شيخ الأزهر في مصر.

وقد كان الشيخ محمد زاهد الكوثري -رحمه الله- متقنا للعربية والفارسية والتركية والشركسية، متبحرا في علوم الشريعة وما يسندها من علوم الآلة.

وكان عالما من الذين لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يتردد أن يصدح بالحق، وأن يجهر بما ينصر الإسلام وأهله.

وبعد تضييق الكماليين الاتحاديين على أهل الدين وعلوم الشريعة ومدارسها وأوقافها واشتداد إجراءات العلمنة في تركيا، عُزل الكوثري من وكالة الدرس، ولكنه واصل ذوده عن حياض الدين والملّة، وفق ما هو متاح من أدوات ومخارج قانونية وعلاقات شخصية في ظل الحكم الجديد.

ولكن الكماليين كانوا قد استولوا على تركيا الجديدة ومؤسساتها، وأعلنوا حربا صريحة على ما يربطها بالإسلام وشريعته، خاصة علوم الفقه والعربية وغيرها، إلا من كان يمالئهم ويقرّ رغبا أو رهبا ما صاروا إليه من سنّ قوانين وتشريعات تسلخ الترك عن ماضيهم القريب والبعيد، وما أكثر مثل هؤلاء المشايخ في كل زمان ومكان، وما أقل أمثال شيخنا الذين لا يبيعون الدين بالدنيا، ولا يهادنون في أمور الشرع صاحب جاه أو سلطان كائنا من كان.

هنا فرّ الكوثري بدينه، حيث كان بين خيارين: السجن والعذاب بحيث لا ينتفع أحد بعلمه، أو مواكبة التيار ومهادنة العلمانيين، ووفق هذا الواقع الصعب اختار شيخنا الرحيل عن تركيا، رحيلا كان أولا إلى الإسكندرية في 1922 ثم تنقّل بين دمشق والقاهرة واستقر في القاهرة.

وقد توفي رحمه الله بحي العباسية في (1371هـ/ 1952م)، بعد 75 سنة تقريبا في هذه الدنيا، كابد فيها كيد أعداء الدين وأصحاب الأهواء في كل موضع حطت فيه رحاله، وصبر على فراق الأهل والزوجة والذرية، وتجرع مرارة موت الابن والبنات، وصبر واحتسب حين اشتد عليه المرض، وضيق العيش وقلة ذات اليد في الغربة، وهو الذي كان أيام توليه وكالة الدرس في تركيا، يتلقى عشرات القطع الذهبية راتبا شهريا.

فرحم الله الشيخ محمد زاهد الكوثري وجزاه خيرا عن المسلمين وعن صبره على البلاء خير الجزاء، ونفعنا الله بعلمه وجعلنا ممن يستن بسنته في الجهر بالحق.. اللهم آمين.

المقالات الكوثرية تفوح علما عاطرا نافعا؟

عند الحديث عن تراث شيخنا الكوثري، وهو حنفي المذهب حتى النخاع، ولكنه ناصر للمذاهب الأربعة باعتبارها عنوان وحدة وتماسك الأمة، وضد اللامذهبية التي يراها -وأوافقه تماما- أنها قنطرة اللادينية، وهذه بالمناسبة مقالة أو رسالة مسطورة في أحد ما ترك من كتب ولعله أبرز كتبه.

كتاب (مقالات الكوثري) وقد يسر الله لي منه نسخة مطبوعة صادرة عن المكتبة التوفيقية بالقاهرة، وهناك طبعات أخرى ونسح إلكترونية كثيرة من هذا الكتاب النفيس.

بضع وخمسون مقالة جمعت في هذا الكتاب من قلم الشيخ محمد زاهد الكوثري -رحمه الله- وقد قدم لهذه المجموعة القيّمة من المقالات كل من:

  • الشيخ (محمد يوسف البنوري) أستاذ الحديث بدار العلوم الإسلامية، باكستان، وذلك بعد سنتين من وفاة العلامة الكوثري؛ شرح فيها ماهية المقالات ومواضيعها، وكيف كانت فكرة جمعها.
  • الشيخ (محمد أبو زهرة) وكيل كلية الحقوق وأستاذ الشريعة في جامعة القاهرة (إبان تلك الفترة) حيث تناول نبذة عن سيرة الشيخ الكوثري ولقائه به وارتياده مجلسه، وعرضه عليه التدريس في برنامج دبلوم الشريعة التابع لكلية الحقوق في جامعة القاهرة، ولكن الشيخ الكوثري -رحمه الله- اعتذر بسبب ضعف بصره ومرضه ومرض زوجه، رغم إلحاح الأستاذ محمد أبو زهرة عليه لقبول التدريس، وقد أخبره العلامة الكوثري حينما زاره في البيت أنه يريد أن يكون في موضع الدرس قويا لا ضعيفا، ومرضه ومرض زوجه عامل ضعف، فوجب الاعتذار.
  • الشيخ (محمد إسماعيل عبد رب النبي) واعظ القاهرة حيث تحدث عن بعض مزايا الشيخ الكوثري، وكيف أنه أجازه إجازة عامة شاملة أن يروي عنه جميع ما يصح له من حديث وتفسير وفقه وأصول.

وأما المقالات بين دفتي الكتاب فأنا أتوقف مكتفيا بما قاله الشيخ البنوري عن طبيعة كتابات الكوثري "إنما يكتب صفوة ولبابا، وروحا وجوهرا، لا يمكن لأحد أن يلخص كلامه".

فتلخيص المقالات خاصة في هذه المساحة أمر متعذر، بل وجب على المختص وغير المختص في علوم الشريعة أن يقرأها، بدل المرة مرات، ليس لأنها معقدة وصعبة بالضرورة، ولكن لأنها جمعت عصارة قراءات وأبحاث الكوثري المتعددة في علوم الدين، فكما قيل فإن الكوثري يبدو وكأن تراث الأمة كله اجتمع بين يديه؛ والمقالات تضم مباحث مختلفة في علوم الشريعة كالحديث والفقه والعقيدة وغيرها، تجلت فيها نباهة الكوثري وإخلاصه وتفانيه وصونه للعلم وحرصه وغيرته على الإسلام.

فهذه دعوة أوجهها للمختص والمهتم والمسلم العادي أن ينهل من تراث الكوثري ويبدأ بمقالاته، ولو اقتصر عليها لانشغال أو فتور نفس فلا بأس.

والمهم ألا تنخدعوا ولا تصدقوا ما قاله ويقوله عنه الحاقدون والحسّاد، ومن نصّبوا أنفسهم أصحاب حق بدعوى حجة الدليل المزعومة قاصدين ومستهدفين شطب وتجاوز المذاهب الأربعة التي بمثابة سياج وخيط ناظم للملّة والفقه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.