شعار قسم مدونات

السلوك الأخلاقي الرفيع.. معضلة كبرى لدى الغافلين

كيف يتسنى لك خلق انطباع أول جيد في عملك الجديد شترستوك 1662148657
في دول شرق آسيا يعتبر رفع الصوت في المجادلة أشد أثرا وإيلاما على السامع من الضرب (شترستوك)

كثير من الناس ضعاف جدا في سلوكهم التعاملي مع الآخرين في ظل "الخطاب التصادمي" غير المهادن، إذ لم يتعودوا أن يقولوا أو يكتبوا كلاما دمثا وهادئا، حيث لا يعرفون التنازل والتغاضي والمجاملة وتطييب الخاطر، ويعتبرون ذلك تصغيرا لمكانتهم وامتهانا لقدرهم، وربما لأنهم لا يبالون بذلك وفقا لطبائعهم الجافة التي نشؤوا عليها منذ نعومة أظافرهم في بيئات شبه منغلقة، أحسن ما يقال عنها إنها محافظة ومتحفظة!

ولعل هذا السلوك المتأبي Reluctant والمتعالي، بقصد ومن غير قصد عند بعض الناس، لا يعينهم على النجاح في حياتهم التجارية والاجتماعية والسياسية بعدما يفقدون الناس من حولهم.

"وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ"

وبذا يظلون جامدين يراوحون أمكنتهم منكفئين على أنفسهم فيما يعرف بـ "الثقافة الانكفائية" Locked up culture يائسين مستوحشين وسط تسابق الشعوب الأخرى نحو التفوق العلمي والرخاء الاقتصادي لخير بنيها.

ففي دول شرق آسيا كماليزيا مثلا يعتبر رفع الصوت في المجادلة والحوارات أشد أثرا وإيلاما على السامع من الضرب واللكم، بحيث يؤدي إلى النفور والازورار تماما، وهذه مسألة يراها كثير من الزائرين هناك أمرا عاديا كما هي الحال في بلدانهم، وقد ينم عن عمق المحبة والتودد أحيانا!

فالواحد منهم لا يألف اللين والسديد والمعروف والحسن والطيب من القول، ولم ينطبع لسانه على ذلك فيظل يسير مكبا على وجهه من غير هدى، من حيث يدري ولا يدري!

وتصعب الحياة مع تلك الفئة من القوم الذين هم بحاجة إلى التدريب التطبيقي والتأهيل النوعي على المدى البعيد بأفانين التواصل والتلاقي ذي الذوق الرفيع (الاتيكيت)، وإنشاء علاقات حميمة مع الآخرين تبشر بخير وافر في مستقبل الأيام بعيدا عن فحش القول والأصوات المنكرة، من غير نظرة دونية ومتغطرسة، "إن في صدورهم إلا كبر"، إذ لا يرتكز هذا عندهم -وإن لم يكن مقبولا- على شيء "مقنع" أو حتى مؤهلات علمية وعملية، تبدو جلية للعيان، ويا للعجب!

هذا عدا العنصرية و"الازدرائية" -إن جاز هذا السبك- التي يضمرها بعض الناس تجاه الآخرين ومنهم من يجاهر بها علنا ويفاخر، غير آبه بعواقب ذلك!

حدثني أحدهم بعنجهية وصلف أنه ينحاز إلى بني جلدته في كل الاحوال ويثأر لهم وينتصر، حتى وإن كان ذلك على حساب دينه، إذ يقدم النعرة الجاهلية والكبرياء الأجوف على مبادئه وثوابته وفقا لما شب عليه من حيث لا يشعر أحيانا، وهو يعلم علم اليقين بحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الذي يقول في الجاهلية "دعوها فإنها منتنة" أي أنها كريهة وقبيحة ومؤذية!

هؤلاء قوم لا يرجى منهم أن يقدموا لأنفسهم ولا لأوطانهم شيئا يذكر، ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه، ويمضون حياتهم تابعين منقادين في ذلة وخنوع لثقافات غازية جائرة لا تشبههم أبدا، فلا استقلالية ذاتية حقة لهم ولا كرامة، فهم غائبون ومغيبون، لا يقدمون ولا يؤخرون شيئا ذا بال، بل هم في عداد المستهلكين والمستهلكين، والمعطلين والمعطلين، ويكفي أن مصيرهم ومصير أوطانهم لا يبشر بخير مرجو، فلا يملكون تخطيطا إستراتيجيا ولا دراسات مستقبلية تستشرف القادم من على البعد، ولا مدخرات علمية وتقنية، ما دام ليست هنالك قواعد راسخة من المبادئ والثوابت، وما دام مقدار التحصيل البحثي والتأهيل الخبراتي -عند أكثرهم- مختلا ومعتلا، إذ يبدو ذلك واضحا على ركاكة ألسنتهم وطرائق تفكيرهم المحدودة قصيرة النظر!

ومنهم من يعمل عملا قليلا جدا في يومه، وعلى قلته تلك، لا يكون متقنا بالقدر الكافي، ومع ذلك يلقي باللائمة في المظالم والتجاوزات على المسؤولين عامة بوجه حق ومن غير وجه حق، وعلى مر السنين، ويتهمهم دونما استثناء بعدم الأمانة والسرقة وشح الكفاءة، وينسى أو يتناسى نفسه وجماعته أنهم شركاء في الإثم واللوم على نحو من الأنحاء. وهذا يؤطر في إطار "المرض السياسي" الذي ابتلي به بعض القوم الحالمين الواهمين الذين يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا ويستحقوا، في غمرة اندفاعهم الهائج فيما يجري من أحداث ووقائع من غير تبين وتثبت لمجرد حب الخوض مع الخائضين جهلا وظلما، تسفيها وتشكيكا.

لقد مضى عهد الثرثرة السياسية عند بعض الشعوب، وحان وقت العمل المبدع الجاد والمنجز، فلا نتحرى الأمانة والتعفف عند غيرنا، ومتوسط وقت عملنا في اليوم لا يساوي شيئا مقارنة بما هي الحال عليه عند الأمم الوثابة إلى العلياء والسؤدد في هدوء وصمت مطبق بمنأى عن الجلبة والضوضاء، وصَدق من قال "أسمع جعجعة ولا أرى طحنا!".

فمثلا خلصت دراسة أجراها اتحاد الموارد البشرية، في إحدى الدول العربية في وقت سابق، إلى أن إنتاجية الموظف الحكومي العربي تتراوح بين 18 و25 دقيقة فقط يوميا، وذلك نسبة لأسباب كثيرة لا يسع المجال هنا لذكرها!

وكل ما أشرنا إليه آنفا مرده إلى معايير الأخلاق وفقا لمحاسبة النفس والتراجع والتجرد، ومضاعفة البذل والعطاء في صدق وإخلاص، وثقافة الاعتذار والتنازل، وعدم إقصاء الآخرين، والقبول والإقرار بالخطأ، وحسن التدبير والتوجيه بالحكمة والموعظة الحسنة، بمنأى عن التحاسد والتباغض والتدابر، شتما ولعنا وقذفا، وذلك في سبيل التغيير المتطلب لخير الأمة ورفاهيتها.

"إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ"

ولا يفوتنا أن نشيد بأولئك الذين يتحلون بالخلق القويم عبر النفس الهادئ الرزين، وهم القوم الذين ينأون بأنفسهم عن الضوضاء والأضواء في سبيل تحقيق المرامي باليقظة والإدراك والنشاط الدائب بالصبر والمداراة، بالوعي التام لبواطن الأمور، لله درّهم.

سئل الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال "تقوى الله وحسن الخلق".

يقول أحمد شوقي:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ويقول أيضاً:

صلاح أمرك للأخلاق مرجعه

فقوّم النفس بالأخلاق تستقم

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.