شعار قسم مدونات

في مركب واحد

جميعنا في مركب واحد، ولا بد من منع من يسعى لخرقه، بإعادته إلى وعيه إن كان جاهلا (الجزيرة)

نحن لسنا ملائكة، ولكنا لسنا شياطين. نحن بشر نخطئ ونصيب، وينتابنا ضعف وقوة، وتفتر همتنا حينا وتنشط حينا آخر.

هذه كلها حقائق لا بد من أن نستحضرها ونحن نتابع ما يتردد على ألسنة الكثيرين وأقلامهم من أسف وتحسر على أزمنة مضت كان الناس فيها أقوم مسلكا، وأقرب إلى جادة الصواب مما هم عليه اليوم. وندرك جميعا ونعي أن تأثرنا بمنطق العصر وشعاراته قد جعلنا أبعد عن الالتزام بمعايير دينية وأخلاقية كانت تضبط سلوك من سبقنا، لكننا قد نغفل عن حقيقة أن هذه الآفة لم تقتصر على فئة من الناس، بل عمت وطمت، وصارت وباء سرى أثره بين الجميع. لا سيما أن دعوات التفلت الوافدة من الشرق والغرب يتعالى صخبها، ويعطيها مروجوها قوة مادية مسيطرة تسعى لترسم لنا سياساتنا وأخلاقنا وطرائق تفكيرنا وفق ما يهوى أولئك.

ولأن الحال كذلك ما عاد يجدي أن تكثر شكاوى النَّاس من فساد الناس، وكأن الشاكي يرى الفساد قد عمَّ الجميع واستثناه، فهل الناس إلا أنا وأنت وهو وهي؟!

كلنا غارقون في الخطأ، وجميعنا في مركب واحد، فماذا نفعل؟

أنتقاذف الشتائم ونتبادل التهم، أم نسارع إلى تدارك المركب لمعالجة ما حدث فيه من ثغرات، كل من موقعه ووفق استطاعته؟

وأي الأمرين أكثر إلحاحا، وأجدر في تحقيق السلامة؟

أليس الأجدى أنْ نبادر لعمل إيجابي فاعل، وإن كان صغيرا، لنخرج مع غيرنا من واقع الفساد، بدلا من الوقوف عند لغة التذمر ومفرداتها؟

والحقيقة أنه ليس كل من يخطئ يندفع إلى الخطأ معاندا مكابرا، فقد نجد من قهرته الهموم، حتى زاغ بصره، وحار عقله، فمشى على غير هدى، وشطّ عن السبيل.

ولعل تقصير فلان من الناس في واجبات عليه القيام بها سببه وهن حلّ به، أضعف قواه وأذهب عزيمته.

قد يكون الذي أغرى أخا لنا بالسير في دروب الأهواء الضالة وساوس شيطان تسللت إلى نفسه في لحظة ضعف منه، ولم يجد سبيلا إلى طردها، ولا حيلة في إبعادها. ولربما تركته في غفلة ملهيات أحاطت به من كل جانب، فأغرقته وأبعدته.

قد يكون الذي دفع ذاك الآخر إلى ظلم غيره، ظلم كبير وقع عليه من حيث لا يحتسب؛ أفقده صوابه، وزرع في نفسه الوهم بأنه يحق للمظلوم أن يَظلم.

قد يكون الذي ألجأ صاحبا لنا إلى الكفر إعراض أهل الإيمان عنه، وإقبال أهل الزيغ عليه.

هذا وهذا، وذاك وذلك قد لا يُصلح أحدهم المزيد من التعنيف واللوم، بل إن كلا منهم ينتظر يدا حانية تمتد إليه لتنقذه من الغرق، وكلمة رفيقة رقيقة تنير له الطريق. ولن تكون الكلمة كذلك، ولن يكون لها نفعها ونورها إذا أتت من إنسان يرى نفسه في مستوى أعلى من الذي يقف عليه الآخرون، لأن صاحب الكلمة هذا أقام بينه وبين الآخرين حاجزا يحول دون وصول صوته إليهم. والنصيحة المتعالية تزرع نفورا وشقاقا، أما التناصح الودود فيؤمل أن يثمر أُلفة وصلاحا.

ويبقى لنفس كل واحد منا نصيبها من صور الخير، مع ما فيها من العيوب، فكم هو جميل أن يخاطب أحدنا في الآخر جانبه المشرق، كوسيلة للوصول إلى العيوب ومعالجتها!

وإقبالنا على المخطئ لا يعني قبولنا بالخطأ وتجميلنا له، فالخطأ يبقى خطأ، وليست الغاية تغيير وصفه، وإنما اعتبار الظروف التي أحاطت بفاعله من جهة، ومن جهة أخرى جعل الجهد مُركَّزا على إبعاده أكثر من التشفي برؤية المخطئ يهوي إلى الحضيض. ومن كان سروره بأَن يهلك العاصي أشدّ من سروره بأن يعود هذا إلى صوابه ورشده، فليعلم أنه يسعى إلى هوى النفس، لا إلى ما يحبه الّله ويرضاه. ثم إنه لن ينفعنا أن يموت المخطئ وينتعش الخطأ وينتفش.

لكن، لا ينبغي لنا أن نكون سذجا مغفلين، فننكر أن بيننا من سلكوا طريق الضلال، وأسلموا أنفسهم للشيطان، ولا عذر لهم. بل انقادوا لأهوائهم مختارين واستحبوا العمى على الهدى، فهؤلاء سيفتضح أمرهم عندما يعود أصحاب الفطرة السليمة إلى فطرتهم، فيظهر شواذ المغرضين.

وجميعنا في مركب واحد، ولا بد من منع من يسعى لخرقه، بإعادته إلى وعيه إن كان جاهلا، وبالأخذ على يده إن حركته نوايا خبيثة. ثم إن أمواج الفتن تحيط بنا، وفوز أحدنا لا يكفيه أن ينجو بنفسه من الغرق، بل في أن ينقذ أيضا من استطاع ممن حوله معه، ولعل الذي ننقذه اليوم يمد لنا يده غدا لينقذنا.

ويبقى الناس للناس، ولا غنى لبعضهم عن بعض، ويُصلح ما بينهم التواضع والتواد. فأقبل عليهم، ولا تنتظر أن يصبحوا ملائكة لتتعامل معهم. حسبك أنهم ليسوا شياطين. فإن أبت نفسك عليك ذلك، فذكِّرها أنَّها لا تنتسب إلى عالم الملائكة.