كانت ألف الأبجدية الزمنية للقرن الـ20 أعجمية اللكنة والهيمنة على جملة الحوادث في الشرق، وتواترت الأيام وهي حبلى بالكوارث التي تنتظر أن تولد، والتحديات المرتقبة التي تتشوف أن تخاض. وقد أنجبت السنون التي تبعت تلاشي الحكم العثماني عن أرض فلسطين كثيرا من الحيرة من رحم الغيب المستور، على ملاءة القدر في بيت المقدس.
في خضم ما عمّ البلد من التبدل والتحول في رأس هرم الحكم، عقب هزيمة الحلفاء البيض الغربيين للترك والعرب السمر الشرقيين، باتت رياح التغيير تهبّ عاصفة على أهل البلد، تقتلع مسلّمات الحياة أمام أعينهم واحدة تلو الأخرى، فقد أمسوا يرون أعداد اليهود تزداد بين ظهرانيهم، وازدادت مع قدومهم مساحة الأرض التي تملّكوها، إما شراء، وإما سلبا بسلاح القانون البريطاني الذي أحكم قبضته على بلدهم. ولم يطل الزمن بالفلسطينيين حتى فهموا أن الأيام قد تخلت عنهم، وأن الأرض قد حنثت وارتمت في أحضان الآخر الأكثر مالا والأشد حزما، وأن الحاكم الجديد لبلادهم ليس يشابههم لا في لغة ولا دين، وذلك يعني أن سبل التواصل والعلاقة بين الحاكم والمحكوم صارت علاقة بين غرباء لا ذمة بينهم ولا مودة، غريب لا يرى فيهم إلا ما يرى اللص القوي في متاع الضعيف الذي لا حامي له ولا حليف، ومن ثم كان استكلاب الحلفاء كدأب الكلاب البرية الجرباء إذا رأت في اجتماعها ما يصلح به أمرها من سرقة واختلاس موارد الآخرين، ولو أردنا الإنصاف لكان في قدرتنا أن نلتمس للكلب البري الأجرب العذر، فهذه سجيته وتلك طبيعته، فهو منزوع العقل منقاد للغريزة، وما قدرنا أن نلتمس للمشبه ربع عذر يحفظ به ماء وجهه المسكوب، في تقليده لكلب أجرب!
ومضت الأيام والجديد لا يفارقها، وفي كل نهار يتسع اليهود في الملك، وتشتدّ نبرة خطابهم، تحت عين بريطانيا ووفق رضاها التام عن الجاري. وفي يوم صيفي من أيام 1929 عجزت الشمس أن تكون مصدر الحرارة الوحيد، فقد اشتعلت نار الحمية في صدور الفلسطينيين نظرا لما لقوه من وقاحة اليهود الآخذة بالازدياد؛ لينهضوا نهضة رجل واحد متصدّين لحشود اليهود التي أخذت تعتدي على حق الفلسطينيين في ملكية حائط البراق الذي كان حقا عربيا إسلاميا خالصا حتى وفق قانون الانتداب البريطاني.
لم ير اليهود المدعومون من الغرب في الفلسطينيين أي خطر، فقد تلخصت نظرتهم إليهم على أنهم محض فلاحين جهلة وبدو رحّل لا حقّ لهم في الأرض المقدسة، وعرف الفلسطينيون ذلك تمام المعرفة، ولاحظوه أحسن ملاحظة، ورأوا أن تبقى هذه النظرة على حالها، حتى إذا حملوا على اليهود والإنجليز حملة ما كان للصدمة الفائدة المثلى للفلسطيني الثائر، وهذا إن دلّنا على شيء فإنه يدلنا على التغيير الذي حلّ بعقلية الفلسطيني الذي صار يفكر بعقلية المحارب بعد أن قضى من عمره وطرا لا يفكر إلا بعقلية الفلاح والبدوي والزوج والأب والابن، أي إن عقله تأقلم مع المتغير الجديد من غير أن ينبذ القديم المعتاد.
ولم يلبث الطرفان طويلا حتى اشتبكا اشتباكا عنيفا، اشتعلت على إثره الجغرافيا الفلسطينية من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، فبدو السبع -وهم أهل بأس وعزم- خرجوا عن طورهم وحملوا على اليهود حملة أذاقوهم فيها الويلات، ولم يتخلف سكان خليل الرحمن عن الحدث، وهاجموا يهود المدينة وقتلوا منهم قرابة 70 نفرا لوحدهم، فإن القضية في نظر الفلسطيني كانت قضية وجود، وما استكان الناس لموازين القوى التي خالفت أهواءهم، ولا خضعوا للظاهر من العجز في اقتدارهم على الظفر بعدوهم، فإن أهل فلسطين من العرب، وحال العرب إذا مسّت كرامتهم معروف ماضيا ومضارعا، محفوظ في بطون الكتب وفي المرثيات المخلدة لذكرى من قضى نحبه في سبيل كرامة الأوطان وشرف الأقوام.
كانت نيران الحرب العالمية حينئذ لم تخمد بكليتها بعد، وظلت جذوة الانتقام مشتعلة تحت الرماد، والفلسطينيون في توق عظيم إلى التحرر من الغريب الذي تجرّأ على غزوهم في أرضهم، فما اقترب اليهود صوب المسجد الأقصى المبارك وحرمته في ذلك الصيف حتى قصم ظهر الجمل الصابر، ونفض الحليم عنه حلمه، وخلع رداء صبره وانطلق يعدو في رحاب بلاده، يقوده الغضب، ويحفزه الإباء، وتغذيه الحمية. ونجم عن غضب الفلسطينيين في تلك الحقبة ما أدهش البريطانيين واليهود على حد سواء، ليطلب الإنجليز تعزيزا من جندهم في مصر. وبدأ عصر جديد يتجلى في الشرق، عصر امتدّ به العمر واستثناه الموت، كانت تلك بداية عصر المقاومة الفلسطينية التي غدت نبراس أمل لكثير من المستضعفين في جهات الدنيا الأربع.
كانت تلك الكرّة للفلسطينيين على اليهود تدق ناقوس خطر عظيم على البريطاني، فقد بدأت فكرة المقاومة تكبر ويشتد عودها، ومن مخاض هذه الهبّة التي ارتقى فيها 116 فلسطينيا شهداء بإذن ربهم كان هناك 116 عائلة تدبّر للانتقام لمن صرع أحباؤهم. وفي تلكم الأثناء التي هبّت فيها نسائم الوحدة في رياض الفلسطينيين، لم تتأخر قوات الانتداب في الرد، مصدرة أحكام إعدام تجاه ما لا يقل عن 27 فلسطينيا، من دون أن تصدر حكما واحدا مماثلا في حق اليهود، على الرغم من أنهم كانوا من بدأ العداء وأجّج النفوس؛ لتصبح مخاوف الفلسطينيين حقيقة جلية، وهي أنهم سوف يدخلون معتركا متعدد الجبهات لوحدهم. وفي تلك الفترة نفسها من التاريخ، كان هناك شيخ يعتلي المنبر يدعى عز الدين، يأمر الناس بالإعداد لحرب الفرنجة والإنجليز المحتلين، وهذا الشيخ سيكون شرارة اشتعال ثورة ثانية في فلسطين بعد أعوام قليلة.
علمت بريطانيا بحنكتها السياسية، وخبرتها الطويلة الأمد في استعمار بلدان الآخرين واحتلالها أن شنق 27 فلسطينيا في تلك الأجواء لن يكون عملا حكيما، وسرعان ما سيرتد الناس إلى الشوارع مدفوعين بالغضب والانتقام لمقتل أبناء شعبهم وعائلاتهم، فخفضت أحكام الإعدام من 27 حكما إلى 3 أحكام، أي إنها حاولت تصوير نفسها بصورة الحاكم الرحيم الذي يهدي الحياة إلى 24 ممن قد حكم عليهم بالموت، ولكن هذا الفكر النمرودي لم يكن ليعبر على حاملي القرآن بالقبول، فالفلسطينيون هم ورثة بلد خليل الرحمن الذي وقف أمام النمرود وهزمه ضد كل الاحتمالات. ولهذا، كان إعدام الثلاثة المتبقين وهم: محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، في سجن القلعة في عكا شرارة لمقاومة من صنف جديد، هي المقاومة الشعرية والأدبية، فقد رثى الفلسطينيون شهداءهم الثلاثة، معتذرين إليهم عن عجزهم في حمايتهم، مخلّدين ذكراهم في مرثية عظيمة باللهجة الفلسطينية العامية، أبدع فيها الشاعر نوح إبراهيم في إلحاق أسمى الأوصاف بشهداء القلعة، ليبقوا في الذاكرة الفلسطينية ما بقيت الذاكرة الفلسطينية، قائلا في بعض أبياتها:
من سجن عكا طلعت جنازي(ة)
محمد جمجوم وفؤاد حجازي
..
جازي عليهم يا شعبي جازي
المندوب السامي وربعه عموما
..
محمد جمجوم ومع عطا الزير
فؤاد حجازي عز الذخيرة
..
ويقول محمد أنا أولكم
خوفي يا عطا أشرب حسرتكم
..
ويقول حجازي أنا أولكم
ما نهاب الردى ولا المنونا
أعلن المندوب السامي يوم الثلاثاء، الموافق لـ17 من يونيو/حزيران من عام 1930، الموعد الذي اختاره الإنجليز لإعدام شهداء فلسطين الثلاثة، ليجعل الفلسطينيون هذا اليوم يوم إضراب شامل، وارتفع الأذان الحزين من المآذن، وقرعت نواقيس الكنائس إجلالا لشهداء الوطن. وفي هذه المناسبة، سيكون من حظ القارئ أن يذهب لقراءة وصية الشهيد فؤاد حجازي، الموجودة على الشبكة في مواقع عدة؛ ليعرف بأي ثبات واجه الشهداء مصيرهم، وهذه كانت قصة شهداء القلعة، لقد كانوا ثلاثة رجال تسابقوا على الموت، وعلت أقدامهم فوق رؤوس جلّادهم، كما أسلف نوح إبراهيم في مرثيته الخالدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.