شعار قسم مدونات

نبيّ الله نوح داعيا للتوحيد ومحاربا للكفر والإلحاد

نموذج لسفينة نبي الله نوح رضى الله عنه
نموذج متخيل لسفينة نوح عليه الصلاة والسلام (الجزيرة)

جاء سيدنا نوح عليه السلام مبشرا بالتوحيد، وبشر بالتوحيد جميع الرسل، وإذا فهم التوحيد على حقيقته واتخذته الإنسانية شعارا لها فإنه يكون علاجا لكثير من ألوان العنف في المجتمعات، فالإنسانية في مختلف أزمنتها وأمكنتها تخاف الموت وتخشاه، مما يقودها إلى استعباد الأقوياء، والذلة أمام الطغاة.

ولكن هذا الوضع لا يتماشى قط مع عقيدة التوحيد، فإن مالك الملك إنما هو وحده الذي يملك الموت والحياة، إنه يملك إماتة الطغاة أو تركهم لحكمة يعلمها سبحانه، وهو الذي قدّر الآجال وحدّدها، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

والحرص على الحياة -أو الجبن- ليس من أسباب إطالة الأجل، والشجاعة والإقدام ليسا من أسباب تقصير الأجل، وقد بيّن الله ذلك في كتابه الكريم الذي يعبّر عن جميع الرسالات السابقة إبانة تامة، وكما أنه لكل أجل كتاب، فإنه لكل أمة أجل.

أما هؤلاء الذي قالوا: "لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا" (آل عمران: 154)، فإن الله سبحانه يرد عليهم: "قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ" (آل عمران: 154)، وهؤلاء "الذين قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا" (آل عمران: 168).

إعلان

فإن الله سبحانه وتعالى يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم قائلا: "فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (آل عمران: 168)، وأما الذي يفرون أمام أعداء الله فهؤلاء "إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا" (آل عمران: 155).

إذن، فالمؤمن الصادق لا يعرف الجبن، ولا يستزله الشيطان موسوساً له بالخوف من غير الله تعالى.

وإذا كان خوف الموت هو الدعامة الأولى في ذلة الإنسان واسترقاقه، فإن الدعامة الثانية هي همُّ الرزق، والناس عادة ينتابهم القلق ويغمرهم الحرص على أقواتهم، ويلجأ بعضهم إلى وسائل لا تليق بالكرامة الإنسانية، بل يصل الأمر بالبعض إلى مستوى التملق والمداهنة والمراءاة، وبعضهم يصل به الأمر إلى الغش والرشوة والاختلاس، وتستعبد المادة والحصول عليها الإنسان فيصبح عبداً مسترقّاً.

ولكن الدين، وقد حرّر المجتمع من خوف الموت، فقد حرّره أيضاً من همّ الرزق، فالرزق بيد الله تعالى "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا" (هود: 6).

وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الرزق في السماء محدّد ومقسوم، وأقسم سبحانه على أن ذلك حق واقع. لقد أقسم سبحانه لما يعلم من ضعف الطبيعة البشرية وإشفاقها وقلقها بالنسبة لأمر الرزق، "وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ" (الذاريات: 22 -23)، على أن صاحب الثراء العريض الذي يعتمد على شرائه غير ناظر إلى الله تعالى واهب الرزق والثراء، فقد يخسف الله به وبداره الأرض، كما صنع بقارون، أو يطوف ببساتينه ومزارعه طائف منه سبحانه، فتصبح خاوية على عروشها، كما فعل سبحانه بأصحاب الجنة الذين قصَّ علينا أمرهم في القرآن الكريم في "سورة القلم".

إعلان

وما من شك في أن السعي إلى الرزق مطلوب، وأن العمل الجاد الكادح إنما هو من سمات الإسلام، كل ذلك حق، وإذا كان الرزق بيد الله تعالى، وإذا كان العمل مطلوباً، فإن ما ينهى عنه الإسلام إنما هو هذه الصورة الجشعة القلقة التي تحاول اقتناص المال في السبل غير المشروعة، أو التي ترى أن عبداً من عباد الله بيده الرزق، إعطاءً ومنعاً، وبيده الرزق زيادة ونقصا، أو أخذاً وتركاً، فالتوحيد -إذن- علاج للجبن، وعلاج للقلق من أجل الرزق. (د. عبد الحليم محمود، قصص الأنبياء في رحاب الكون مع الأنبياء والرسل، ص 71)

وقد أخذ سيدنا نوح عليه السلام يدعو إلى التوحيد في همة لا تفتر، وفي نشاط لا يتوانى، وأخذ يدعو ليلاً ونهاراً، وأخذ يدعو جهراً حينما تتيح له الظروف الدعوة الجهرية، ويدعو سراً حينما يستلزم الأمر الدعوة سراً، فلم يكن يدع فرصة تمرُّ إلا ويشرح فيها رسالة الله: مبشراً ونذيراً، مرغباً في ثواب الله وجنته، ومخوفاً من عقابه وعذابه.

لقد أخذ نوح يشرح لهم قدرة الله وشمول علمه، ودعاهم إلى التفكر في أنفسهم قائلاً: "وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا" (نوح: 14)، ألا ترون أنه خلقكم في بطون أماتكم خلقاً من بعد خلق؟

لقد كنتم تراباً ثم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم كنتم أجنة، وكنتم في جميع هذه الأطوار في رعاية الله، محفوظين بحفظه، محاطين بعنايته، وبعد ذلك كنتم أطفالا فشبّانا… وهكذا، وستعودون إليه من جديد في أية لحظة شاء، فارجعوا إليه بالتوبة والإنابة، والطاعة قبل أن تواجهوه وهو غير راضٍ عنكم، ثم: "أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا" (نوح: 15-16).

ثم: ألم تروا كيف جعل لكم الأرض بساطاً، وجعل لكم فيها مسالك وسبلاً للإقامة والانتفاع، وفي كل ذلك ما نرى في خلق الرحمن من تفاوت.

إعلان

وأخذ سيدنا نوح يعدد نعم الله: منها اليسير ومنها العظيم، الظاهر منها والباطن، ونعم الله كثيرة لا تحصى، "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا" (النحل: 18)، وأعلن لهم قانون "الاستغفار"، وسيدنا نوح أول من أعلن هذا القانون: "اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا" (نوح: 10).

هذه هي مقدمة القانون أو قاعدته وأساسه، فإذا كان الاستغفار الخالص النصوح، وإذا كان الالتجاء إلى الله بطلب المغفرة في صدق كانت النتيجة: "يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا" (نوح: 11)، أي: يتنزل الغيث المحيي لأرضكم الجدباء، والذي يملأ أنهاركم الجارية بالخير والنماء، "وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا" (نوح: 12)، فإن الإمداد بالأموال والبنين وقد أتى بهما القرآن بصيغة الجمع مترتباً على الاستغفار، وإن هبة الجنات والأنهار وقد أتى بهما القرآن بصيغة الجمع أيضا؛ مترتبة على الاستغفار، هذا هو "قانون الاستغفار" الذي أعلنه نوح عليه السلام.

وهذا القانون عام لا يحدده زمان ولا يحدد مكان، فمن التجأ إلى الله في العصر الحاضر بالاستغفار الخالص النصوح الصادق، فإن الله سبحانه يهيّئ له من الظروف ما يجعله يعيش في سعة من الرزق، وفي يسار من المال، إنه وعد الله الذي أوحاه إلى رسوله نوح ليعلنه للناس، ووعد الله لا يتخلف. (عبد الحليم محمود، قصص الأنبياء في رحاب الكون مع الأنبياء والرسل، ص 71- 74)

 

المراجع

  • عبد الحليم محمود، قصص الأنبياء في رحاب الكون مع الأنبياء والرسل، دار الرشاد للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 2010.
  • د. علي محمد الصلابي، نوح عليه السلام والطوفان العظيم، ص 104-107.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان