شعار قسم مدونات

نافذة على كتاب "أحكام الحرب في الإسلام" للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

midan - عين جالوت
رسمة تصورية لمعركة عين جالوت (مواقع التواصل الاجتماعي)

حروب البشر ظاهرة قديمة متجددة، كانت قبل الإسلام واستمرت مع مجيئه وما زالت، وقد أخذت في ظل الإسلام شكلًا جديدًا في معانيها ودوافعها، وقواعدها وأحكامها. وهذا ما استعرض بعضًا منه الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه "أحكام الحرب في الإسلام وخصائصها الإنسانية". وعلى هذا الكتاب نفتح من هنا نافذة، لنلقي الضوء على أبرز ما جاء فيه.

في التمهيد لموضوعات الكتاب يقف المؤلف مع الحقيقة التي تعدّ أساسًا لما يتبعها من حقائق، وهي أن لكل أمة في السلم والحرب فلسفة معينة، وضعها الحكماء والعلماء والقادة والرؤساء، وهي تصور الوسائل والغايات، وقد تكون هذه الوسيلة والغاية مشروعة أو غير مشروعة في المعيار الصحيح في تقدير أناس آخرين، يصدرون أحكامهم على ما لدى غيرهم بتجرد وموضوعية وحيادية. أما الوضع في الإسلام فهو مختلف، لأن مصدر التشريع في السلم والحرب هو الوحي الإلهي أو الكتاب السماوي، وهو القرآن الكريم الذي يترجم معانيه ومبادئه نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم.

ولأن مشروعية الحرب يقررها مصدر سماوي، فإن الحروب في الإسلام ليست دينية يمليها التعصب الديني، بهدف إبادة المخالفين في الدين، فقد قال تعالى:

﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ﴾ [البقرة: 256].

وليست الحروب في الإسلام بقصد التسلط على الأمم والشعوب الأخرى لأن ذلك ظلم، والظلم حرام ممنوع في جميع الأديان.

وليست الحروب في الإسلام حروبًا استعمارية أو اقتصادية لسلب الشعوب أموالها، ونهب خيراتها وثرواتها. وقد قال ربعي بن عامر مبعوث سعد بن أبي وقاص إلى الفرس لرستم قائد الفرس:

إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، ووالله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم.

إنما الحرب مشروعة في الإسلام بقصد حماية نشر الدعوة الإسلامية، وصون الدعاة إلى دين الإسلام، وردّ اعتداء الآخرين، وهي ضرورة يُلجأ إليها في حدود الحق والعدل. قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190].

والأساس الواضح المميز للجانب الإنساني في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم، وأما الحرب فهي أمر طارئ لدفع الشر والعدوان، وإزالة العقبات أمام نشر دعوة الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، أو بالحجة والبرهان والمسالمة.

وإذا قامت الحرب، فإن لها أحكامًا نظمتها شريعة الإسلام، تحكمها في بدئها ومسارها وبعد انتهائها، ومن ذلك وجوب إبلاغ الأعداء مضمون الدعوة الإسلامية، كما ذكر فقهاء المالكية والزيدية. وتحكم قواعد الحرب في الإسلام قاعدة أو مبدأ المعاملة بالمثل ما لم تكن الوسائل الحربية ضارّة ضررًا عامًّا، أو مبيدة للجنس البشري، أو دنيئة خسيسة، تنبذها مكارم الأخلاق، وتتصادم مع الاعتبارات والمبادئ الإنسانيّة. ويُستعان على الأعداء في رأي أغلب الفقهاء بكل وسيلة مادية تؤدي إلى كسر شوكتهم، لكن استعمال الأشد مع إمكان تحقيق المقصود بالأخف فيه كراهة، لأنه إفساد في غير حاجة.

وفي الإسلام اعتبارات ومبادئ، تجعل إنهاء الحرب والعودة إلى السلام قريبة وسريعة الحصول، ومن تلك المبادئ أن الإسلام لم يكتفِ بنداء السلام أو بمبدأ التعايش السلمي نظريًّا، وإنما صنعه فعليًّا، ودعا إلى أكثر من ذلك، وهو التسامح والتعايش الودّي. قال تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8].

وتبقى الجوانب الإنسانية حاضرة في حروب المسلمين، فحماية السكان المدنيين وأموالهم واجبة، والحرب مقصورة على الجيوش المتحاربة، فلا تتعدّاها إلى بقية شعب دولة ذلك الجيش المعادي، ولا يجوز إتلاف شيء من أموال العدو من أبنية وزروع وأشجار ومنشآت مدنية كالجسور والطرق إلا لضرورة حربية. قال تعالى: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [هود: 85].

وتقيّد نظام الحروب في الإسلام مبادئ أخلاقية رائعة، استُفيد منها في المعاهدات الدولية، وجعلت المسلمين مضرب الأمثال في معاملتهم للأعداء.

من تلك المبادئ الوفاء بالعهود والمواثيق، وتحريم الغدر والخيانة. قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 91]. وقد كان شرف الوفاء بالعهد في تاريخ المسلمين دافعًا لخصوم لهم إلى قبول رسالة الإسلام واعتناق عقيدته.

والمسلم الحق يشعر أنه في قتاله مطالب بالترفع عن النقائص وسلوك الخسة والدناءة، ومثال ذلك أن القائد صلاح الدين امتنع عن قتل ريتشارد قلب الأسد عندما قُتلت فرسه، بل أرسل له فرسًا جديدة ليركبها.

ولازم مبدأ الفضيلة والتقوى ومبدأ الشفقة والرحمة بقدر الإمكان حروب المسلمين، كما تميز المسلمون بالتزام مبدأ العدالة مع خصومهم عملًا بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8].

وحفظ التاريخ للمسلمين حسن معاملتهم للأسرى والجرحى والقتلى. وقد قال نبيهم صلى الله عليه وسلم:

"استوصوا بالأسارى خيرًا" (المعجم الصغير للطبراني).

ويُشار هنا إلى أن الوصايا للجيوش كانت عُرفًا سائدًا عند المسلمين، لتوجيه القائد والمقاتلين، وإرشادهم إلى ما ينبغي التزامه والعمل به. ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عندما أرسله إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل؛ فقال له:

اغزوا جميعًا في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله،

لا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا،

فهذا عَهْدُ اللهِ وسيرة نبيّه فيكم..

(المعجم الأوسط للطبراني).

ويبقى القول: لئن تضمن هذا الكتاب حديثًا عن واقع إسلامي، جاء به إنسان مسلم، فإن له أصداء ترددت على ألسنة مشاهير من غير المسلمين، طالعوا التاريخ، وأدلوا بشهادتهم على ما عرفوه وتوصلوا إليه، حتَّى قال غوستاف لوبون:

ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم من العرب،

وأعلن ول ديورانت في كتابه "قصة الحضارة" أن بلاد الأندلس لم تشهد في تاريخها حكمًا أكثر حزمًا وعدالة وحرية كما شهدته أيام فاتحيها العرب.

 

  • تنويه: لكون المقالة نافذة على كتاب فطبيعي أن يكثر فيها الكلام المأخوذ بنصه كما جاء في الكتاب، ولكن كثرة أقواس التنصيص التي تشير إلى الكلام المنقول تشوّه جمال الكتابة، فرأيت الأنسب إلغاء الأقواس وإلحاق هذا التنويه.