تصدر البنك السويسري "كريدي سويس" (Credit Suisse) قبل أيام قائمة الأعلى تفاعلا على مواقع التواصل العالمية، بسبب تسريب بيانات بعض عملائه الحساسة أسماؤهم -التي سمُيت بـ"أسرار سويسرا"- وهؤلاء العملاء ليسوا مجرد شخصيات عامة، بل من مديري المخابرات ورؤساء مؤسسات حكومية في دولهم، وبعضهم حكام تتلقى دولهم إعانات أوروبية وأميركية.
أثار هذا التسريب ضجة عالمية، بسبب قانون البنوك السويسرية وسياسة البنوك التي تحمي -لا بل تساعد بطريقة ممنهجة- إيداع أموال مصادرها مقدرات أوطان وإجرام.
بدأ البنك السويسري -الذي يحتل المركز الثاني على مستوى سويسرا- بعد تسريب بيانات عملائه بالتأرجح، وهو ما دعا الاشتراكيين الديمقراطيين السويسريين إلى تغيير القانون، مرفقا بتحذير من منظمات صحفية وإعلامية بشأن تقييد قانون البنوك لحرية الصحافة.
تبين أن البنك في السنوات الأخيرة يغطي قضايا أرصدة أصولها فساد، ويُقبل على عثرات قانونية كثيرة.
مؤسسات إعلامية ألمانية -بعضها متلفزة- سلطت الضوء على النُخب في العديد من البلدان النامية وعلى الماضي المظلم لبنك كريدي سويس؛ ماضٍ قد تضرب عواقبه الآن مستقبل البنك بشدة. فمنذ الأربعينيات وحتى العقد الماضي، البنك يقدم لأرصدة المجرمين والسياسيين الفاسدين ورؤساء الأجهزة السرية المثيرين للجدل ملاذا آمنا.
قام مجهول بتسريب مجموعة بيانات لصحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" (SZ)، و"نورد دويتشر روندفونك" (NDR)، و"إذاعة غرب ألمانيا" (WDR) لعرضها للرأي العام، وأرفق مع البيانات خطابا قال فيه: "أعتقد أن السرية المصرفية السويسرية غير أخلاقية (..). هذا الوضع يُمكّن الفساد ويحرم البلدان النامية من عائدات الضرائب ومقدرات أوطانها".
وهذه التقارير من شأنها تكملة ما بدأته "أوراق بندورا"، ولكن حكام العرب برآء دائما كالعادة، والدليل هي جل أصوات الشعوب المتعالية "المعثرة" و"الطفرانة" و"الجوعانة" والمديونة والمحبوس بعضها، لأنها تجرأت أمام ولي الأمر وقالت: "لا يجوز"، تلك هي التي ستقف للدفاع عن سيف الدولة.
عندما نشرت "زود دويتشه تسايتونغ" يوم الأحد 20 فبراير/شباط الماضي عن العلاقات المشكوك بها بين البنك والعملاء، وجدت بعض وسائل الإعلامية السويسرية نفسها مضطرة للحديث عن الفضيحة، فنشرت صحيفة "نويه تسوريشر تسايتونغ"، و"لوتون" و"20 دقيقة" عناوين مقتضبة، بعضها كتب "فضيحة جديدة" وأخرى كتبت "أعمال كريدي سويس القذرة"، وكأن التقرير وليس المحتوى هو الخبر.
اللافت للنظر، أن تسريبات البيانات والآلية التي خرجت من خلالها إلى الضوء لعبت دورا جانبيا في المواقع الإخبارية السويسرية، ففي حين أنها المعنية بذلك إلا أنها لم تشارك في التحري رغم أن "الائتلاف التجاري" قد تواصل مع بعضها.
في خضم الجدل الدولي، وافق السياسي السويسري أندريا كاروني على توسيع المادة 47 من قانون البنوك لعام 1934، الذي يُشدد ويحظر على الصحفيين تقييم البيانات المصرفية السرية حتى لو كانت للمصلحة العامة. في المقابل، اتخذ محررو "تاميديا" موقفا أوضح بشأن هذه النقطة، وتعاونوا مع "زود دويتشه تسايتونغ"، وتاميديا مجموعة إعلامية خاصة ضخمة في سويسرا، ووظفت عام 2020 نحو 3632 موظفا، في سويسرا والدانمارك ولوكسمبورغ وألمانيا.
العميل فوق القانون
ولكن على ما يبدو أن عمل البنوك هو الأهم وليس القانون، ولهذا السبب تحديدا تحتاج سويسرا إلى الصحفيين الذين يُسمح لهم بالبحث والتحري من دون قيود قانونية من شأنها دعم الفساد باسم حماية العميل. "إنه لمن العار أن يفعل الزملاء الأجانب الآن هذا الشيء من أجلنا"، حسب صحيفة "تاغيز أنتسايغر".
وعلى المستوى الأوروبي، قال الأمين العام للاتحاد الأوروبي للصحفيين، ريكاردو جوتيريز، إن سويسرا لا تحترم المعايير القانونية الأوروبية المتعلقة بحرية التعبير وحرية الصحافة، فالدولة تضع المصالح الخاصة للمصرفيين قبل المصلحة العامة. وهذا أشبه ما يكون بالأنظمة الاستبدادية.
وفي سويسرا، قالت عضوة المجلس الوطني للديمقراطيين الاجتماعيين، سميرة مارتي، إن المادة الرقابية التي تحظر وسائل الإعلام السويسرية من الكشف عن الجرائم الضريبية يجب أن تتغير، كما وأشار رئيس حزبها سيدريك فيرموت إلى مبادرة أخرى من قبل حزبه تهدف إلى تشديد العقوبات المفروضة على هيئة الإشراف بالسوق المالية السويسرية.
بالمقابل، أحرجت هذه التصريحات أندريا كاروني، الذي يتبنى سياسة الخصوصية في البنوك ومنع العمل الصحفي من التدخل في بياناتها، وتصريحه مشهور في هذا الصدد، وأعيد تداوله يوم 21 فبراير/شباط الماضي: "ليس من عمل الصحفيين نشر بيانات سرية وشخصية مسربة"، إبان مناقشة قانون البنوك لعام 2014.
من ناحية أخرى، طالبت "منظمة الشفافية الدولية" و"مراسلون بلا حدود" الحكومة السويسرية والبرلمان بتعديل القانون وبالعمل الجدي حيال المادة 47 من قانون البنوك السويسري، التي تشكل تهديدا لا يطاق لحرية المعلومات المتمثلة بالصحافة.
بنك كريدي سويس يمكّن بمنهجية الجرائم المالية، لا بل ويساعد المسؤولين الفاسدين في جميع أنحاء العالم في غسل أموالهم ويقدم نصائح عن الآلية الأفضل لذلك.
بينما تدعو الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى اتخاذ إجراءات حاسمة ضد مثل هذا السلوك البنكي الذي من شأنه تمكين الفساد وإفقار الشعوب حيث ينشغل الحكام العرب بالدفاع عن أنفسهم وتقديم ذرائع واهية -أقرب إلى السخرية- حول تضخم أرصدتهم في سويسرا.
الكليبتوقراطية وبسط الطبقية
كلما تفاقمت الكليبتوقراطية يزداد الفقر عند الشعوب ويكثر الولاء للحاكم. معادلة تخاطب الواقع، فالدولة تصفع باليمين، وتشرع الشمال ليُقبّلها العديم. سياسة دول وممارسات من شأنها خلق الطبقية الممنهجة.
أكثر عملاء كريدي سويس حساسية هم حكام الدول الفقيرة وأعوانهم؛ يقتاتون من رغيف الفقير. لائحة تسريب الأسماء كبيرة ولا أجد داعيا لذكرها، وهي موجودة في الصحف لمن أرادها.
حصيلة الأرصدة الأوروبية الموجودة في هذا البنك بسويسرا لا تتجاوز 1%، بينما جنوب أميركا، باكستان وآسيا، والشرق الأوسط وجل المنطقة العربية مثل ليبيا، مصر، العراق، الجزائر، عُمان، اليمن -التي تعاني حربا أهلية وجوعا- يستأثر كبار موظفيها بمقدرات أوطانهم الجريحة ويستحوذون على نصيب الأسد فيها.
أرصدة البنوك السويسرية، وتحديدا البنك الذي نحن بصدد الحديث عنه، هي المؤشر الرئيس إلى الفساد ومصادر الأموال والأصول غير القانونية، وإلا لكان الإيداع بشكل علني في الدولة التي يحكمها رئيس الدولة أو رئيس وزرائها أو مدير مخابراتها، ولشاركهم الموظف والراعي والفلاح البنك ذاته. غريب!
التسريب البنكي وأسماء حساسة تصدرت لائحة هذا التسريب ذكرتني بالمثل الأردني القائل:
التلم الأعوج من الثور الكبير.
هذا المثل يختصر الحال في الدول "المستوية" وفي الطليعة العربية. لمن لا يعرف "التلم" فليسأل صاحبه الفلاح -الفلاح سابقا- هذا لأن أرضنا بارت وباعوها للحريري وآخرين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.