تدخل القوات الروسية الحدود الأوكرانية، ضمن عملية عسكرية بشرت بها المخابرات الأميركية على لسان رئيسها جو بايدن، في حرب ستدور رحاها في القارة العجوز التي لطالما تسببت بمآسٍ مفجعة للعالم، غير أنّ المخاوف من اندلاع صراع عالمي بين حلفاء روسيا ضد الغرب بقيادة الناتو، أخذت "منعرجا لا أخلاقيا" أشبه بهيستيريا الأميركيين تجاه توقيت الحرب، بدل العمل على معالجة مسبباتها.
الحق في القيم المشتركة
تقف أوكرانيا -درع الاتحاد السوفياتي سابقا، ووريثة الثورات الملونة- على مرمى حجر من الارتماء للفوضى الداخلية، جراء تدهور اقتصادها ومستنقع الحرب الذي لن يطالها وحدها فحسب، فثمة حسابات للكرملين لاسترجاع نفوذ الاتحاد السوفياتي الآفل، ولعل من المفارقات الغريبة التي يشهدها العالم في ظل جائحة لا تتوانى هي الأخرى عن النيل من الإنسان، أن يقف الاتحاد الأوروبي مسلوب الإرادة والقوة أمام الدب الروسي السّاعي لتقليم الزحف الغربي نحو حدوده، داعيا للتهدئة والمفاوضات في سبيل تفادي سيناريو الحرب.
يبدو الغرب مع تبنيه "بيان الحقوق الأساسية" لتنظيم وتعزيز ما سمي بـ"القيم الأوروبية"، في حالة ارتباك شديدة، مع ما صرحت به رئيسة المفوضية الأوروبية بمؤتمر ميونخ للأمن 2022، قائلة: "الغرب كان دائما متحدا ونحن والناتو نتشارك القيم الأوروبية، والهدف المشترك، والحقوق الإنسانية". تلك التوافقات التي يفاخر الغرب بتأسيسها وفق "المانيفستو الأوروبي"، تحيل ما دعي بالقيم الإنسانية المشتركة على "تحد أخلاقي"، ليس بمقدور الغرب تجاوزه مع ما كشفته نتائجه المخيبة بعد رفض حق أوكرانيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي والناتو، إذ توقف الأمر على فرض مزيد من "العقوبات الاقتصادية" التي تتقاسم الأطراف المتناحرة تكاليفها المدمرة، ولعل تصريح الرئيس زيلينسكي الأخير عن "تخلي الغرب عن أوكرانيا لخوض الحرب وحدها"، يظهر الشرخ الحاصل داخل الاتحاد الأوروبي بسبب تعارض مصالح دوله، فألمانيا غير مستعدة للتخلي عن تبادلاتها الاقتصادية الروسية، أما فرنسا التي تخوض حرب استنزاف جيوسياسية بأفريقيا ضد التوغل الروسي، فتبدو أكثر حماسة من نظرائها الأوروبيين في تشريع العقوبات وتقديم دروس الديمقراطية.
أوروبا في مواجهة روسيا، هذا ما سعت إليه الإدارة الأميركية بقيادة الديمقراطيين، بعد الإعلان عن المعاهدة الأمنية "أوكوس" وإلغاء أستراليا شراء الغواصات، في صورة تعيدنا إلى الصراع الدائر ليس على "حماية القيم الأوروبية" كما يروج لها الساسة الفرنسيون الذين يتسارعون نحو الخطابات العنصرية التحريضية، والدعم اللوجيستي والمالي للمنظمات الإرهابية، أو عن الصورة الأحادية في خطابات بوتين القومية لاستعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي، بل هو صراع "الأمن والاقتصاد" الذي فرضته تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتقارب الروسي الألماني، والحالة الشعبوية المسيطرة على الساسة الأوروبيين.
يحيلنا الصراع الدائر في الأراضي الأوكرانية على ازدواجية معايير الأوروبيين تجاه المسائل المتعلقة بمفهوم الاستعمار والهجرة، فقبل عقدين من الزمن تجيّش "المانيفستو الغربي" لشنّ حرب عبثية ضد وهم السلاح النووي العراقي، ضاربا "التزاماته الحضارية والأخلاقية" عرض التاريخ المسجل لجرائم الحرب والإبادة والتهجير. وتحت ذريعة "نشر الديمقراطية" والحفاظ على "السلام العالمي"، أعلن الغربيون بيانا مشتركا لا يختلف كليا عن خطابات النازية والستالينية، ومع حالات الخوف والتخبط التي يعيشها الأوروبيون وهم يرقبون التحركات التالية لبوتين، آملين مع كل صلاة دعاهم إليها الرئيس الأميركي أن يحل السلام عليهم، تتفاقم معاناة النازحين والمهجرين الذين لن تنفعهم العقوبات الاقتصادية على الروس.
الجغرافيا في مواجهة حركية تاريخية
نقل مراسل الجزيرة قرب الحدود البولندية الأوكرانية حركة متسارعة للمدنيين النازحين، كما أنّه نبه إلى افتقاد مراكز الإيواء والرعاية الطبية لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين في بولندا، وهو مشهد لطالما أثار مخاوف الأوروبيين وهم يشاهدون الملايين المتدفقة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حال انفلات الوضع الأمني في أوكرانيا، مما قد يتسبب بهجرة كبيرة توقع أوروبا في مصيدة اللاجئين.
يقف الغرب على حدوده الشرقية، لا لصد الهجرة غير النظامية التي تسببت بها تدخلاته في منطقة الشرق الأوسط، بل بجنوحه لدفع الأوكرانيين نحو صدام عبثي من شأنه أن يعيد ويلات الحرب العالمية الثانية عليه، غير آبه بالأسباب الحقيقية لانطلاق الملايين من قوافل المهاجرين والنازحين، فالشرق الأوسط ملتهب بحروبه الأهلية وأفريقيا تتجرع مرارة الانقلابات العسكرية، أما أوكرانيا المشتعلة بتلاعبات الغرب فباتت اليوم رهينة تداعيات غزو روسي، وهو ما دفع بمفوضية اللاجئين لإعلانها أن ما يقرب من 5 ملايين مهاجر أوكراني من شأنها العبور نحو أوروبا.
أراد الغرب تحييد الهجرة من كونها "حقا إنسانيا"، واعتبارها "تهديدا أمنيا" رسمته لوائح تحالفاته الجغرافية لشركاته، والتي تتعطل أمام انتقال قواعده العسكرية المنتشرة في مناطق يكثر فيها الفقر والجوع والقتل. وأمام التناقض الذي يرسخه المانيفستو الأوروبي في مواجهته أزمته الأخلاقية لحل القضايا الإنسانية، ينبري الساسة الغربيون نحو مزيد من الرفض العنيف لموجات الهجرة المتلاحقة، في تبادل للاتهامات حول استغلال "الأزمة الإنسانية" للاجئين. ومع تزايد المخاوف من تغييرات اجتماعية وثقافية لدى الأوروبيين، يتصدر المشهد السياسي الفرنسي زعماء يمينيون يستعدون الحق الإنساني في الهجرة والحرية، مهددين بذلك الملايين بالترحيل القسري إلى حيث الدكتاتوريات التي تعمل جاهدة لتصفية ما تبقى من طموح التغيير، ولعل تصريح الرئيس الفرنسي حول استعداء روسيا للديمقراطية والحرية يفتقد لنبرة صادقة بإمكانها تعزيز "القيم الأوروبية" في حال تخلت الجمهورية الفرنسية عن "نزعتها الإقصائية والانعزالية" تجاه الأقليات والمهاجرين.
كان على الشعوب التي تكابد الحروب والاحتلال أن تتخلص من توهمها المرتبط بـ"النزعة الحضارية" تجاه الآخر الذي منحها إنسانية من تخيله. كان عليها أن تقبل العالم وأن تنخرط فيه بكل سماحة وذوبان، وإن لم تفعل ذلك فهي خارج دائرة "الفعل الإنساني" ومجرد أشياء مستعملة يمكن التخلص منها بواسطة حركات أو افتعال حروب أهلية، ولا ضير في أن تُسلح إن لزم الأمر لتجزئة المجزأ وتقسيم ما تبقى من العالم لصياغة اتفاقيات الخضوع والإذعان، وللاستحواذ على ثرواتها عبر شركاتها التي لا تعترف بالحدود الجغرافية بقدر ما تهمها خرائط اقتصاد النيوليبرالية.
الصّحراء الغربية وفلسطين المحتلة ضمن حلقة دولية يتم التلاعب بملفات تحررها كيفما شاءت المنظومة المتصهينة، فهذا السودان ينشطر ويستقل عنه جنوبه المسيحي في استفتاء امتد من 9 إلى 15 يناير/كانون الثاني 2011، كانت نتيجته 98% لصالح الانفصال عن دولته المركزية، والتي أفضت إلى تقبيل بابا الفاتيكان فرانسيس الأول قدَم رئيس جنوب السودان سلفا كير وزعيم المعارضة ونائب الرئيس رياك مشار، مخاطبا إياهم بقوله: "ستكون هناك صراعات وخلافات فيما بينكم، ولكن احتفظوا بها بينكم، داخل المكتب، إذا جاز التعبير.. لكن أمام الناس، ضعوا أيديكم في أيدي بعض لتأكيد الوحدة.. لذا كمواطنين بسطاء، ستصبحون آباء للأمة"، في طلب ترجم على أنّه رجاء لوقف الحرب التي دامت 8 سنوات منذ استقلال دولة جنوب السودان.
في الوقت ذاته يتجمد ملف المسألة الكشميرية والصحراء الغربية أهم نواتج الاستعمارية الغربية على صفيح ساخن متقلب بين سياسات الغرب المزدوجة ورهانات السّوق والمضاربة التي تمنحها الهند كجبهة مساندة للغرب والولايات المتحدة الأميركية ضد التوسع الصيني.
ربما تدرك الشعوب الثائرة أنّ "القيم الإنسانية المشتركة" آخر ما يمكن أن تراهن عليه المؤسسة الدولية للملمة جراح الإنسانية المبعثرة بكل مكان، وهي تبصر الحرية كيف تساق نحو الزنازين والمنافي مكبلة بسلاسل الغدر والخذلان، أنى لها أن تحيا بين ظهراني شعوبها وأبناؤها كيفما كانت أحوالهم باتوا كمن يسلم عنق خلاصه لعدوه، مادحا له وشاكرا دعمه بالكلمات الصاخبة والتصريحات المتلفزة. يحق لشعب انتفض ذات ربيع ينزع عنه سنوات الاستدمار وسياسات الأرض المحروقة، أن لا يبقى جاثيا راجيا الغرب كيما يعترف له بالحق في الثورة والحرية والعدالة، وهو يكابد لمنع الملايين من النازحين من العبور الآمن نحو الحياة.
التاريخ سيسجل أولئك الذين خذلوا شعوبهم المكلومة، مثلما روى لنا جرائم الفوهرر والجنرالات والمليشيات المتطرفة، لأنّ فعلهم اللاأخلاقي باق ما تواترت الأجيال سيرة المنكوبين من غدر الأنانية المشبعة بالتسلط، المنسيين من فصول الحرية والعدالة والديمقراطية، فالتاريخيون لا يسع قلم كتاباتهم إلا أولئك الذين ورثوا الحكم كابرا عن كابر، فملؤوا الأرض إحسانا وعدلا، أو انقلبوا على أنفسهم وأهليهم وأمتهم فما اسطاعوا أن يقيموا لنهضة حصنا، أو أن يتركوا الناس تترا كل نحو مستقبله يحيا، بل أغلقوا الحدود وألجموا الأفواه وصفدوا الحقيقة، كانوا يرثون المستعمِر كي ينالوا مما تبقى من أحلام شعوبهم البسيطة، آمالا ذرتها ريح "أوهام الديمقراطية" في انتكاسات الداخل ورهانات الخارج، بينما الحرية التي تكفّفها التاريخ وبنى لها عرشا من قرابين المغيبين والمهجرين، ما كان لأحد أن يختارها وهو بعد يرى الجوع والخوف يستعمر عالما مسلوب الإرادة والتفكير، في مناف ما عادت تسع الفارين من ويلات تلاعبات سادة المانيفستو الأوروبي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.