كأي إنسان يحلم بالحياة ويحبها، أجري بحماس وشغف كبيرين نحو أرض المطارات، وتلاحقني الواقعية والحروب، ويسحبني في كل مرة، وفي كل أرض، وفي كل مطار مختلف عن غيره، وجه الموظف والمراقب للجوازات، مهما اختلفت لغته، أو جنسيته، واضعا قلبي وجسدي، في آخر الطابور، وكأن دوري في الحياة "كعراقية" هو أن أكون، الأخير، ولو امتلكت، مثل جميع المسافرين، "الفيزا" ذاتها، أراقب الأقدام وهي تتجه، والوجوه الفرحة، التي لا تبالي لشيء و تتكئ على قوة "جواز سفرها" فيما أمسك قلبي، وترتجف أفكاري حول الرحلة، لئلا يتهموني بتفجير مركزي التجارة، القلق يأكلني حتى يأتي دوري ويتفحص جوازي ووجهي الضجر، وأتساءل، أتساءل كل مرة: ماذا فعلنا لنُعامل بهذه الطريقة؟
مرة، وفي طريقي من سويسرا، إلى مدينة أوربية أخرى، أصر الموظف المسؤول على ختم الجواز ومنحنا العبور إلى الطائرة، على تفحص وجهي، وقبلها، قبل أن ينظر إليّ، كان شكلي وهويتي في الجواز كافية، لطلبه من مسؤولي تفتيش الحقائب، أن يعيدوا تفتيش حقيبتي، وهذا ما حصل فعلا، أعادوا البحث عنها، كنت صامتة طوال الوقت، أسير أينما يتجهون، أشاهدهم وهم يقومون بتفتيشها "يدويا" واستخراج كل ما فيها، وما فيها؟ معدات نسائية كأي مسافرة، قاموا وبدون استشارتي حتى، بالتخلص من المنتجات، اقترحت أن أضعها في حقيبة الظهر، لم يجيبوا، وضعوها في كيس تم رميه، ثم أغلقوا حقيبتي وأعادوها.
لا أنكر أن طريقة تفتيشهم الجدية جعلتني أخشى أن يكون شيئا خطرا في حقيبتي ولا أدري، يجعلونك في بعض الأحيان، مصدقا لهم، وقادرا على التشكيك بنفسك، حتى أنت نفسك، لا تعرف إن كنت إرهابيا، أو مواطنا من الدرجة الثالثة، عليك إذا ما أردت التقرب من حدودهم، تحمل كل المشقة، عليك أن تسكت، ولا نفس، أو حركة، كل شيء محسوب، وأقل تصرف "عفوي" منك، أو غضب فطري، قد يرمي بك إلى خانة مزعجة ومؤذية، لا نهاية لها. بعد أن أغلقوا حقيبتي، سألتهم: لمَ لم تفعلوا الأمر ذاته مع بقية المسافرين؟ وبالتأكيد لم يجبني أحد.
أخبر كل من أصادف داخل هذه المطارات، في سري، أن لا ذنب لي بمشاكل حكومة بلدي وسياسته، كل ما في الأمر أني أريد أن أعيش، تتكرر الأسئلة وتتغير الوجوه، أحيانا أجيبهم بحدية وأنتفض مثل مقاوم لليأس المحكوم علينا حتى في محاولاتنا الحياة، وأحيانا، أتحدث بهدوء وثقة كبيرة: نعم أنا عراقية، هل في ذلك مشكلة؟ ألا يحق لصاحب هذا الجواز أن يحصل فيزا شنغن كما يحصل على الأوسكار وأن يكتشف الأرض؟ وألا يضطر لدفع مبالغ طائلة للطائرة وأن يكون السفر له سهلا ومتاحا، كما يحدث مع الجميع.
قلبي يعتصر فيما تتحس أصابعي على كلمة عراق المدونة في جوازي، نعم سأعود، بغضب أعيد الجواب لكل من يهبني الفيزا مقابل أن يعلم كم أملك في حسابي المصرفي وماذا سأفعل في بلده، وأن أخبره أن لي عائلة تنتظرني، وعمل أحبه وأصدقاء رائعين وبلد -رغم كل ما فيه من وجع- أحبه، ولا أريد له أن ينُظر من قبل الآخرين هكذا. فنحن كلما سافرنا نظرنا إلى البلدان بعين محبة، وقلب كبير، ولا نريد في المقابل سوى المعاملة ذاتها، لكن وفي كل مرة، تقابلني المواقف عند باب الطائرة، تكون بمثابة ذاكرة فورية، تذكرني أن جواز المواطن العراقي هو ثاني أسوأ جواز في العالم، عليك يا آية استيعاب ذلك، وعدم الانجرار إلى العاطفة، إنهم يتعاملون حسب هذه التصنيفات التي تقرر نيابة عن سكان الأرض، من يستحق دخول دولة، دون غيره، ومن يتم الترحاب به، ومن تكشر الوجوه، أمامه، فما الضير؟
علينا تقبل ورقة تتحكم بنا وتجرنا إلى معاقل الأسئلة والتصرفات المستفزة، كما فعل معي، موظف تركي عند وصولي إليه، أعادني إلى آخر الطابور، وطلب مني أن أجلس في مكان ما حتى ينتهي من جميع المسافرين، ثم يتفرغ لي، وبعدها، تفحص الجواز بطريقة غريبة، ينظر إلى أوراقه وكأنها عملة مزورة، يعيد تقليب صفحاته، ينظر إلي ثم إلى صورتي في الجواز، يمنحني إياه، و يجعلني أفور غضبا، وأتحدث دون أن أعي لعصبيتي، بأن ما فعله كان مخجلا، ووضعي آخر المسافرين فيما كنت قبلهم، فقط لخشيته من جوازي، كان أمرا معيبا، سرت ولحقني، كنت اعتقد انه سيعتذر، لكنه هددني إن أعدت كلامي هذا، فسيفعل شيئا لا أحبه، وهل ما سيفعله، أقسى؟
بالطبع هذا الكلام لا يشمل ولا يمثل المطارات العربية التي تستقبل كلمة "عراقي" ب" يا هلا، نورتي، شرفتينا، العراق الحبيب" هذه الكلمات تعيد جزء من الراحة والامتنان الى قلبي، و تشعرني وكأني في مكاني، ورغم إلحاح قلبي، على وضع جميع الدول، وكأنه مكاني أيضا، لشدة حبي للأخرين، وجوه الغرباء تحديدا، إلا أن بعضهم، يعيد الغربة إلى روحي، لن أقول جميعهم، إذ بالطبع، ليس العالم بأكمله متمرسا بالتشدد و الرفض والطرد، أعرف أناس من قارات ومدن بعيدة جدا، يملكون من اللطف والطيبة، ما هو كافيا، لإشباع الأرض، أتذكر مواقفهم وضحكاتهم، وأتحمل العكس.
في حين تمنحنا السفارات، الفيزا بقلق خشية أن نصبح طارئين فوق بلادها، أطالع الوجوه مجددا ويصبح المطار بالنسبة لي، أشبه بأرض صغيرة تحمل جميع الجنسيات والألوان واللغات، حسنا، لا أرى فرقا بيني وبينهم بغير قطعة من الأوراق تسمى الجواز، أحلم أحلامهم ذاتها ولربما أكبر، وأحب الحياة حقا، لا أرى اختلافا بيني وبينهم، الأرض واحدة والحدود ليست سوى خطوط وهمية رُسمت بطبشور قديم.
ولربما، من مهدئات الزمن، هي أنني، بارعة، بتكوين الصداقات، داخل المطار مع الغرباء، وفي الطائرة، ومع المضيفين، أضحك معهم، وأعرف عنهم كل شيء، وأخبرهم بصوت عال، عن أسباب سفري وحماسي، حتى يأتي السؤال: وأنت من أين؟ وأجيبهم: العراق، تتبدل وتختلف الملامح، بعضها يتعجب، يندهش لتعرفه على عراقي في مطار، لدرجة أسأل، وأين يتبخر كل هؤلاء العراقيين المسافرين؟ ومرات، باستغراب يودون معرفة، كيف خرجت من بلد الحرب؟ أعيد ترتيب الحكايات لهم، غير تلك التي عرفوها، من قنوات بلدانهم.
أدخل المدن وأعيد تصفح عيون ووجوه وأيادي المارة وما يمسكون، وأتمنى لو باستطاعتي أن أحمل جميع أبناء جلدتي وأضعهم هنا وهناك ليعيشوا ذلك الشعور الطبيعي، أن ينتقلوا من مدينة لأخرى دون أن تتفحص وجوههم كاميرات وأسئلة موظفي مطاراتها وسفاراتها اللئيمة، نعم، أحب أن أسافر كثيرا دون قلق الرفض، وأن أخبر الأصدقاء الجدد عن طعامنا التقليدي في حين أتناول أكلاتهم الشعبية اللذيذة، وأن أتحدث كثيرا عن مواقعنا الأثرية والحضارية كلما اكتشفت عيني مكانا عتيقا، وأن أدعو كل صديق منحته لي رحلاتي البسيطة، ذلك أن الشعوب رائعة، ولا تشبه حكوماتها أبدا، لأني وبعد كل مشقة استجواب، هكذا ببساطة لا أكثر، كأي سائح غريب، ثم أعود مجددا، تهبنا الحياة أقل ما نستحق، لكننا نريدها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
