هكذا انتصر العلامة المهدي بن الحجوي للمرأة

هدف الفقيه المهدي الحجوي من كتابه الثر إلى أن يجعل أنصار قضية وجود حقوق للمرأة في التشريع الإسلامي على بصيرة. (الجزيرة)

رغم ما لوحظ من تقارب بين التيارات العالمية إزاء المرأة بلغ حد التطابق في التعبيرات المادية والرمزية التي صارت إليها وعليها المرأة اليوم هنا وهناك؛ فإنه ثمة اختلاف في المرجعيات النهائية لكل أنظومة فكرية وفلسفية قديما وحديثا، تتعدد معها زوايا النظر إلى المرأة كذات، وفاعل، وإنسان.

وقد أولى قادة الإصلاح الفكري والنهضوي في المغرب الأقصى عناية بالغة لقضية المرأة والبنت المغربية، وقاربوا الموضوع من مرجعيتهم وزاوية نظرهم وقناعاتهم الفكرية والدينية ودعوتهم الإصلاحية، متجاوزين حالة التخلف وصعوبات التغيير الذهني والثقافي في المجتمع، وتحدي الاستعمار والاستلاب الغربي.

وكان ممن اعتنى بموضوع المرأة المغربية عن علم ودراية وبصيرة، الأستاذ المرحوم علال الفاسي والأديب عبد الله كنون من المتأخرين، والوزير العالم محمد الحجوي الثعالبي وولده الفقيه المتنور المهدي الثعالبي.

لقد كانت لجلسات التعلم والتفقه على السيد الوالد الوزير العالم الحجوي الثعالبي أدوار مهمة في صقل شخصية المهدي الثعالبي (1904-1969)، وتكوينه وتأهيله وتنور ذهنيته. وبعد مسار طويل من التعلم والتفقه واكتساب الخبرات؛ انكب الأديب الفقيه المهدي على قراءة الأعمال العلمية باللغات الأجنبية، وتمحيص التراث الفقهي والتشريعي والقانوني في الحضارة الإسلامية، وموقع المرأة المسلمة والمغربية من كل ذلك. وقد كان يصدر في كتاباته عن رأي ثاقب ومعارف غزيرة تجعل كتاباته جزلة غنية مصاغة بـ"أسلوب رشيق رائق ملائم لروح العصر وذوق نبلاء بنيه" على حد تعبير المؤرخ الكبير عبد الرحمن بن زيدان.

أشغل المهدي الثعالبي عقله ووقته بأمهات القضايا في وقته، ودعا إلى ضرورة تعليم المغاربة ومحاربة الأمية من بينهم، وشنع على مظاهر التخلف وظلم المرأة ووضعيتها الدونية في المجتمع، وعرف بمصادر المعرفة الشرعية والأدبية والفكرية في تاريخ المغرب، وترجم لرواد كبار، وساهم في التأطير الديني للمغاربة عبر أثير الإذاعات الوطنية. وكان مسكونا بمضامين النهضة والإصلاح والتجديد والارتقاء بالمرأة المغربية، ويناشد الشباب والشابات المسارعة للتثقف والتعلم واستعادة مجد الحضارة العربية الزاهية.

إعلان

ومن أعماله العلمية الجيدة والنافعة، كتابه "المرأة بين الشرع والقانون" الذي بقي مقبورا بين أكداس المخطوطات زمنا طويلا، إلى أن حقق ونشر. وقد كان العلامة المهدي أول العلماء المغاربة المعاصرين الذين طرقوا هذا الموضوع، بل ذهب الشيخ علي مصطفى عبد الرازق إلى القول في الرسالة التقريظية التي بعث بها إلى السيد المهدي الحجوي "… وكنتم فيما أظن مبتكر هذا الموضوع، وأول جامع لأشتاته"، بما يفيد أسبقيته على مستوى العالمين العربي والإسلامي.

إن كتاب "المرأة بين الشرع والقانون" يعد بحق في طليعة النصوص العربية الإسلامية التي انتصرت للجانب السمح في ديننا والمنير في مسار حضارتنا، فيما يخص التعامل مع المرأة ومكانتها وأدوارها.

مؤلف عظيم الفائدة، جاء في سياق كانت تجتازه الأمة المغربية برجالها ونسائها، طافح بالصعوبات والتخلف في السلوك والمعاملات والانقماع تحت وطأة الاستعمار وثقافته الغازية الغاشمة، وتطرق لموضوع "لم تعتد طرقه الأقلام، ولا تعودت خوضه الأحلام" على حد ما جاء في مقدمته بقلم كاتبه، ونشر في ظرفية الحرب العالمية الثانية، وتناول بالتمحيص والنقد قضية المرأة في تاريخ الإنسانية وكونها من أخطر موضوعات البحث التي تناولتها الأقلام شرقا وغربا، وأثر الإسلام على قضية المرأة وما جاء به من جديد في تاريخ المدنيات والتشريع العائلي، وتطرق لحق المرأة السياسي والأقوال المختلفة بشأن حقها في الانتخاب وتولي الولايات العامة ورئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، ولحقوقها المدنية (مسألة الرشد، ومسألة الولاية في النكاح، وتصرفات المرأة وتبرعاتها، وتوكيل المرأة، ووصيتها وحضانتها وشهادتها..)، وأسهب في الحديث عن وظيفة المرأة وممارستها للمهن العمومية والحرة، وبيّن أسرار مسائل الطلاق وتعدد الزوجات والعدة، وطالب بحق المرأة في سياق سنوات 1938-1943 في دراسة الطب والهندسة والتدريس وحقها في نشر العلم والإفتاء حتى، وخص كتابه بفصل تناول اختلاف علماء الاجتماع بشأن إعطاء الإسلام للمرأة حقوقها، وعرض أقوالهم على "مبادئ النقد المنطقية"، بحسب تعبيره.

وفي مسألة الإرث، عبّر صراحة بقوله "إن من تطلب لها [أي للمرأة المسلمة] من الحقوق أكثر مما أعطاها الإسلام؛ فقد شاء أن يعكس القضايا، وأن يحدث في المجتمع اضطرابا، وفي توازن العائلة اختلالا" ص: 299 من الكتاب الذي علق عليه الدكتور حماد القباج، وأصدرته مؤسسة مودة للتنمية الأسرية ومؤسسة ابن تاشفين للدراسات والأبحاث والإبداع تحت عنوان "المرأة بين الشرع والقانون؛ دراسة وتعليق" في طبعة أنيقة، وقد كان طبع أواخر حياة المؤلف بمدينة الدار البيضاء سنة 1967.

ثم عطف على مناقشة أوضاع وقضايا المرأة في القانون المدني الفرنسي -بعد أن ترجمه للعربية- وكان مواكبا لجديد القوانين في هذا الباب، فنجده يفرد الكتاب بملحق ترجم فيه نص قانون 18 فبراير/شباط 1938 الفرنسي، وركز أساسا على ما له صلة بحقوق المرأة المتزوجة.

لقد هدف الفقيه المهدي الحجوي من كتابه الثر إلى أن يجعل أنصار قضية وجود حقوق للمرأة في التشريع الإسلامي على بصيرة، وانتصر للمرأة المغربية لانتمائها لنفس بيئته ووطنه وثقافته، انتصر لها مستندا على ترسانته الفقهية والشرعية المتينة، وثقافته المنفتحة على التجارب الأممية، ولتربيته وأخذه عن والده قيم وأخلاق الدين الحنيف ومروءة الرجال في تدبير المنازل وسياسة الأسر.

إعلان

ويحكي عن سيرة كتابه وظروف تأليفه، أنه سلم نسخة أولية منه للعلامة المختار السوسي أثناء مقامهما بالمدينة المنورة في إطار الحج، ونسخة أخرى لوالده العلامة محمد الحجوي الذي صدّر الكتاب المذكور بتقريظ بليغ، مما جاء فيه "وقد رأيتك تكتب كما يكتب أعلام العلم، ومدرسا علما تدرس كما يدرس جهابذة المعرفة". ويؤكد المهدي الثعالبي في ختام كتابه المذكور أنه أطلع كثيرا من العلماء والمفكرين على نسخة من كتابه القيم. وهذا من دأب السلف من العلماء الراسخين المتواضعين.

رحم الله علامة البلاد وفقيهها المستنير، الذي وافته المنية سنة 1969، بعد أن قضى ردحا من الدهر ينير عقول العامة وينافس كبار الكتاب والفقهاء والعلماء، ويجسد طموح الشخصية المغربية في ارتقاء علياء العلم وشرفه الأثيل، ويدافع عن المرأة المغربية داعيا إلى إنصافها وإكرامها ونهضتها وفق ما دعت له الشريعة السمحاء.

 

المراجع

  • "المرأة بين الشرع والقانون؛ دراسة وتعليق"، للعلامة المهدي بن الحجوي الثعالبي، تحقيق الأستاذ حماد القباج، منشورات مؤسسة مودة للتنمية الأسرية ومؤسسة ابن تاشفين للدراسات والأبحاث والإبداع، طبعة 2016.
  • "موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب"، الجزء الثاني، المجلد الأول، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
  • "معلمة المغرب"، مجموعة مؤلفين، مطابع سلا، 1989، صفحة 3338.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان