شعار قسم مدونات

أوهام هنتنغتون.. صراع أم لقاء الحضارات؟

اليونسكو تعيد بشروط مدينة بابل العراقية لقائمة التراث العالمي
مدينة بابل العراقية (الجزيرة)

أرسل الكاتب العالمي نجيب محفوظ خطابًا مع ابنتيه بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب، يقول فيه "أنا ابن حضارتين؛ الحضارة المصرية القديمة، والحضارة العربية الإسلامية".

وتلك الجملة القصيرة تُلخص لنا معنى كلمة الحضارة، وكيف تُبنى، وهل تُشيد على أنقاض بعضها أم لا. فكلمة الأديب نجيب محفوظ تمهد لنا فكرة تلاقي الحضارات وتزاوجها؛ فالحضارات ليست -كما قال صمويل هنتنغتون- في صراع دائم؛ تلك النظرية التي صيغت في كتاب "صراع الحضارات"، وإنما الحضارات في تلاقٍ وتزاوج دائمين، ينتج عنهما تاريخ وعهد جديد. فذلك التزاوج أو التلاقي كأنما الغرس في الأرض، وحصاده يكون الإرث والتاريخ الباقي.

كيف نفهم تزاوج الحضارات

قبل أن نفهم معنى كلمة تزاوج الحضارات علينا فهم معنى كلمة الحضارة في الأساس؛ فقد عرّف ابن خلدون الحضارة بأنها غاية العمران وتنوع الصناعات:

"هي أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران، زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتًا غير منحصر. ويقع فيها عند كثرة التفنن في أنواعها وأصنافها، فتكون بمنزلة الصنائع، ويحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه، المهرة فيه. وبقدر ما يتزيد من أصنافها تتزيد أهل صناعتها، ويتلون ذلك الجيل بها. ومتى اتصلت الأيام وتعاقبت تلك الصناعات، حذق أولئك الصناع في صناعتهم، ومهروا في معرفتها. والأعصار بطولها وانفساح أمدها وتكرر أمثالها تزيدها استحكامًا ورسوخًا. وأكثر ما يقع ذلك في الأمصار لاستبحار العمران وكثرة الرفه في أهلها"(1).

وقد يتفق ذلك التعريف مع ما جاء في "قصة الحضارة": "الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وإنما تتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون؛ وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها"(2).

وقد نستشف من التعريفين السابقين معنى للحضارة أكثر بساطة، وهو "الخبرات المتنوعة والبارزة في كافة أنواع الفنون، وتكون على شكل سلسلة متصلة الحلقات، متنقلة وغير قاصرة على ركن من أركان العالم دون الآخر؛ فترى تلك الحضارة قد شيدت على السهول المصرية أو البابلية أو الصينية، فانتقلت للإغريق والرومان، ثم العرب، وفي الأخير استقرت عند الأوروبي".

تزاوج الحضارات

فمع فهمنا لمبدأ تلاقي الحضارات وأن كل حضارة تستكمل سابقاتها، بدا لنا أن ذلك الاستكمال هو أبهى صور التزاوج، ويحدث في مختلف الفنون والمعارف؛ فمثلًا المصري القديم استطاع أن يحسب الشهور والسنوات اعتمادًا على الشمس، فكان يعتمد التقويم الشمسي على عكس البابلي الذي اعتمد التقويم القمري، ولكن بذلك التقويم -الشمسي- استطاع الإغريق قياس قطر كوكب الأرض اعتمادًا على شروق الشمس والمسافة التي يستغرقها شعاعُ الشمسِ للوصول من مدينة لأخرى. لينتقل ذلك العلم إلى العرب، فتظهر آلات دقيقة تعتمد على الشمس وشروقها لتحديد الوقت، كآلة "الإسطرلاب" التي ابتكرها العرب اعتمادًا على ما توصل إليه السابقون، فحددوا بواسطتها مواقيت صلواتهم الخمس.

ومن أمثلة تقابل الحضارات؛ إسهامات البابليين في فن الخريطة وصناعتها مثل "لوحة جاسور"، حيث أثر ذلك الفن في ما بعد على الإغريق في لوحاتهم وخرائطهم، كخريطة العالم لـ"إيراتوستين"، لينتقل ذلك الفن الحضاري إلى الرومان في خرائط "كلاديوس بطليموس"، ويصل إلى العرب في خرائط الجغرافي العظيم "الإدريسي"، لينتهي بخرائط الأوروبيين كخريطة "مارتن والدسيموللر" عام 1507م.

ونذكر إسهامات المصريين القُدماء في الطب التي اقتبسها الإغريق وظهرت في كتابات أبي الطب "أبقراط-هيبوقراطس"، ثم استفاد منها العرب على يد "عليّ ابن الرضوان" و"ابن سينا"، وكان الأخير صاحب كتاب "قانون الطب" الذي ظل المرجع الوحيد للجامعات الأوروبية حتى مطلع القرن 18.

وغير ذلك من الأمثلة على تزاوج تلك الحضارات في شتى العلوم والفنون، فهذا "إسحاق نيوتن" أول من أشار إلى الجاذبية بقوانينه، كان أن استفاد من كتابات الفلكي العربي اليهودي "مالك البغدادي" والأندلسي المُسلم "أبي عبد الله الفلكي" حول الأجرام السماوية وحركتها، كما استفاد الأوروبيون من كتابات البيروني في الفلك، والذي استفاد هو بدوره من كتابات الإغريق والنساطرة الفلكيين.

في اللغة

حتى أننا لو تمعنا في اللغات سنجد أن هناك بعض الكلمات المُترادفة بين الحضارات والمُستخدمة في أكثر من لغة، ككلمة "ناطور" و"ناقوس" و"ناسور" وأصل تلك الكلمات ليس عربيا، بل آرامي (3)، وكذلك لفظ "الجزية" ليس عربيا بقول العلامة الهندي "شبلي النعماني"، إنها لفظة فارسية وتنطق "كزيت" وتم تحريفها إلى "جزية"، واستدل على ذلك بما ذُكر في كتاب "شاهناماه" للشاعر الفارسي "الفردوسي"، الذي قال بيتًا بالفارسية يُمجد فيه كسرى لإخضاعه الأعداء وجعلهم يؤدون الجزية: "كزيت زبارور شش درم .. بخراستان برهيمن زد رقم". (4)

وبالتالي نرى تزاوج الحضارات يبرز في اللغة، ويُسمى ذلك تقابل اللغات، وتقوم على دراسته علوم اللغة كـ "الفيلولوجيا". فلا توجد لغة خالصة بنفسها بعيدًا عن أثر ذلك التزاوج والتقابل فيها، وإليك الكلمات الإنجليزية التالية (cave, cotton, coffee, tall)؛ ليست سوى اقتباس صريح وواضح من أصلها العربي: "كهف، وقطن، وقهوة، وطول"، وغير ذلك من كلمات وأسماء اختراعات بعينها لم تتغير بين الحضارات، لكنَّ المقال يضيق بتلك الأمثلة.

مصادر

  • (1) عبد الرحمن ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار الفكر، بيروت، 1988م، الجزء الأول، ص 207.
  • (2) ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود وآخرين، دار الجيل، بيروت- لبنان، سنة 1988م، الجزء الأول، ص 3.
  • (3) يوسف غنيمة، مقال الألفاظ الآرامية، مجلة لغة العرب العراقية، العدد 44، بتاريخ 1-4-1927م، ص 22.
  • (4) شبلي النعماني، مقال الجزية والإسلام، مجلة المنار، المجلد الأول، 9 رمضان 1316هـ، 1898م، ص 848.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.