ما إن انصرمت 3 سنوات من تاريخ توقيع الحماية على المغرب، وفي أوج نضال المقاومة الجبلية ضد طوابير الاحتلال الفرنسي التي كانت في طريقها لإخضاع الوسط المغربي، ولد الصبي الذي سيجرع الاستعمار الآلام في المغرب ولاحقا في فيتنام.
ففي وسط أسرة بدوية فقيرة، مستكفية بفلاحتها وماشيتها، ولد محمد بن عمر الأحرش (أو لحرش) سنة 1915، وتربى على قيم الأصالة والرجولة والمروءة الأمازيغية، وفي ربوع خريبكة شبّ على روح الكفاح التي لمسها في أهله وقومه. وبقدر ما كانت حياة الشاب محمد بسيطة بقدر عدم تسليط الأضواء على المراحل المبكرة منها من قبل الباحثين والمؤرخين، إلا أن زمن الدفاع المجيد بالنار والحديد سيدخل المقاوم البطل ابن الأحرش دائرة الضوء، وسيذكر في الموسوعات والدراسات التي عنيت بتاريخ المقاومة المغربية.
انتقلت أسرة الأحرش إلى منطقة أولاد عبدون، لتكون على مرمى حجر من أماكن اكتشاف الفوسفات، ولينفق رب الأسرة على عياله باليسار الذي تتيحه المنطقة الفوسفاتية بدل الإقتار الذي عانته الأسرة من مواردها الفلاحية الضعيفة. وفي الأجواء الجديدة للمنطقة، ستنفتح شهية الشاب محمد لتحقيق الرفاه الاقتصادي وفق مقتضيات عصر الحماية، فزاول بادئ ذي بدء مهمة موظف في البريد والمواصلات بمنطقة تادلة، جامعا بينها وبين كراهية الاستعمار، وتتبع مجريات الأمور ووعود القوات الفرنسية بإعطاء المغرب استقلاله، ولما تيقن ذهاب وعود فرنسا هباء الريح، وأن استقلال المغرب لا محالة متأخر، وأن القادة السياسيين الكبار إنما يُمنّون المغرب ما لن يتحقق قريبا؛ جذّر انحيازه إلى الفقراء والمستغلين، وكثف نشاطه في إطار الحركة النقابية المغربية، حيث اضطلع بدور مهم في نقابة عمال سد بين الويدان، وسرعان ما أضحى أمينا عاما للاتحاد النقابي المحلي بقصبة تادلة، وزاد من عطائه في صفوف الحزب الشيوعي المغربي.
وما إن أطلّت الحرب العالمية الثانية بقرنها وكان في ذلك بلاءٌ للبلدان الـمستعمرة وبصيص من الأمل أيضا؛ حتى التحق المناضل محمد لحرش بالحرب، مجنّدا في صفوف فرنسا، ضمن فرقة الرماة، التي طلب منها القتال في تونس وليبيا وإيطاليا. وكبقية إخوانه المغاربة الذي شاركوا باستماتة في الحرب، مدفوعين بنداء محمد الخامس الذي بدوره أمل في قرب عهد الاستقلال والحرية بسبب الظروف التي كانت عليها فرنسا ووعودها بإعطاء الاستقلال للمستعمرات التابعة لها غداة إنهاء الحرب، وقاتل محمد ببسالة وشجاعة.
عقب انتهاء الحرب العالمية وانتصار الحلفاء، عرضت على محمد بن عمر مناصب ومكافآت، إلا أن الرجل "فضل الانسحاب من الجندية برتبة مساعد أول، فعاد إلى المغرب سنة 1945، واستخلص الدروس من هذه التجربة، إذ لاحظ أن أبناء الـمستعمرات عبارة عن شعوب يستغلها الجهاز الاستعماري في الحرب والسلم"، حسب تعبير "معلمة المغرب"، (الملحق رقم 25، ص: 11).
إن هذا الرجل الذي بالكاد تخرّج بشهادة الابتدائي؛ ومن الميدان العسكري برتبة مساعد أول دفعته ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية، وشراسة الاستعمار في مواجهة القوى الوطنية، واستغلال الموارد الطاقية والفلاحية والصناعية للمغرب إلى الاهتمام بشؤون الطبقة العمالية، ومواكبة جديد ما يصدر في الصحف الوطنية والدولية، فحوّل معاناته بسبب ما كان يراه يوميا من مظاهر الاستبداد والاضطهاد إلى "قلم" متفجر بالنقد والسخط ضد الوضع الاستعماري القائم آنذاك، فصارت "جرائد النقابات تنشر له مقالات، ومنها جريدة العمل النقابي، وجريدة الأمل (..) فتعرض لمضايقات من الإدارة الاستعمارية التي أقدمت على اعتقاله في مايو/أيار 1947، على الرغم من سياسة الانفتاح التي جسدها عهد إيريك لوبون" (معلمة المغرب).
لم تثنه تجربة الاعتقال عن الانتقال من ساحات المقاومة في البادية والمعارك في شمال أفريقيا وأوروبا إلى ساحة النضال النقابي والسياسي، لمقاومة التمظهرات السياسية والاستغلالية لسلطات الحماية الـفرنسية، واضعا نصب عينه شعاره القائل "ليست هناك مكاسب من دون كفاح، وإن كفاحنا من أجل شعبنا هو الذي يعطي لحياتنا معناها الحقيقي".
قاده عمله النقابي إلى نيل عضوية الاتحاد النقابي المحلي بالدار البيضاء سنة 1948، الأمر الذي جعله تحت سمع قيادة الحزب الشيوعي وبصرها، فحاولت تقريبه، إلا أن ميوله النقابية غلبت تطلعاته السياسية. ومع ذلك، فقد اختير في المؤتمر العام لسنة 1949 عضوا في اللجنة المركزية للحزب، إلى جانب كوادر حزبية وفكرية عالية، أمثال المقاوم محمد بن عبد الله، ومحمد بن المهدي، والأستاذ جرمان عياش، والمثقف كاسكون ديلماس، والسيد إدريس العلوي.
وبعد سنة من ذلك، ستطلب منه القيادة الحزبية الانتقال إلى الرباط لتقوية مهام الحزب بالعاصمة، وتعزيز مطلب الاستقلال في مواقف الحزب، لأن الشيوعيين الفرنسيين الذين كانوا منتمين للحزب الشيوعي المغربي لم يكونوا "يجعلون استقلال المغرب في مقدمة انشغالاتهم" (معلمة المغرب، ص 12)، وفي العاصمة أسهم بدور مهم إلى جانب قادة سياسيين آخرين في الكفاح ضد أطروحة الاستعمار وأعماله.
وبعد قضاء سنوات في خدمة الطليعة العمالية ودعم المطالب النقابية والمواقف السياسية لحزبه، والانخراط الجاد في مسؤوليات مغرب الاستقلال، حلّت ظرفية الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي الشيوعي والرأسمالي الليبرالي دافعة به إلى خوض تجربة نضالية ملحمية، خارج الأراضي المغربية مرة أخرى.
انطلق محمد الأحرش في رحلته من المغرب إلى فرنسا، صعودا إلى بولندا، فالاتحاد السوفياتي، مرورا على الصين، ثم فيتنام، المحطة التي سيخوض فيها الجولة الثالثة من الكفاح ضد الاحتلال، بدعوة من القيادة العليا للثورة الفيتنامية.
في فيتنام التي ستعبّر عن الوجه البشع للحرب الباردة، ستنتعش الجوانب العسكرية والقيادية في شخصية ابن الأحرش، وسيضطلع برسالته ومهامه أحسن اضطلاع، وسيعيش تجربة أغنت رصيده النضالي والإنساني كذلك، بمعايشته لأوضاع الجنود المغاربة الـمغتربين، وللضحايا الذين فرّوا من طوابير الجيش الفرنسي، فاحتموا بالثورة الفيتنامية في أحوال توجع كل ذي ضمير حي.
تكفل المناضل محمد بتدريب الجنود المغاربة وتنظيم فيالقهم، وكان بإتقانه الفرنسية والعربية والأمازيغية وبخبرته العسكرية السابقة قادرا على تنسيق جهود الكفاح المغربي إلى جانب اتحاد تحرير فيتنام، وحسن التواصل مع الشرائح المختلفة من الجنود والمتطوعة المغاربة، بنجاح.
وما هي إلا أسابيع، حتى أقام صداقة وطيدة مع الجنرال الفيتنامي القوي فو نجوين جياب (1911-2013)، وشارك بفعالية في تأطير آلاف المغاربة الذين وفدوا على فيتنام للمشاركة في حرب التحرير في المعسكر الذي تكلف به وهو معسكر "سون طاي 1″، وقد كان هذا المعسكر هدفا مباشرا لقوات الاحتلال الأميركي التي شنّت عليه غارة جوية غاشمة انطلاقا من قاعدتها في تايلاند بتاريخ 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1970.
كان محمد بن عمر قائدا ميدانيا "له هـيبة" على حد تعبير زوجته كاميليا، "ينضح حياة، وعاطفة، ويفيض سطوة.." (جريدة "المساء" المغربية، عدد 5 نونبر 2008)، وكان "نشيطا، ذكيا، ويفتخر بذكائه.."، أدى أدوارا بطولية، وقاد بطليعته الثورية إلى اعتقال الجنرال الفرنسي دي كاستريس، وقد روي عن الزعيم الشيوعي الراحل الأستاذ علي يعتة (1920-1997) أنه تسلّم من يد القائد الأحرش قلم الرصاص الخاص بالجنرال الفرنسي دي كاستريس، بما يفيد صحة العملية المنسوبة إليه باعتقاله الجنرال المذكور.
ويبقى من أعماله الخالدة في فيتنام، مشاركته في المعركة التاريخية الشهيرة ديان بيان فو التي جرت وقائعها في السابع من يونيو/حزيران سنة 1954 بعد حصار ضار استمر 60 يوما. فلقّب في أوساط الثـوار الفيتناميين بـ"آنه ما"، ورقاه القائد الفيتنامي الشهير ورئيس جمهورية فيتنام الشمالية هو تشي مـنه إلى مرتبة جنرال في القوات الثورية الفيتنامية، وكافأه بمكافأة وميداليات وهبت له سنة 1955.
ومنها أيضا تشييده "باب المغاربة" في بادية تبعد عن هانوي نحو 60 كليومترا، بمعية الجنود المغاربة الذين أبدعوا في "هندستها العمارية لدرجة أنها تشبه باب بوجلود (بمدينة فاس)، وتشهد على مرورهم لدعم الشعوب المستعمرة"، حسب تعبير "معلمة المغرب" (الملحق 25، ص 12).
وبعد رحلة كفاح من أجل أوطان حرة ومستقلة، وشعوب ظافرة كريمة، وافت المنية المقاوم البطل محمد بن عمر الأحرش في الجزائر العاصمة، مغتربا منفيا يوم السابع من مايو/أيار 1971، وذهبت "معلمة المغرب" إلى أن وفاته كانت بأحد مستشفيات العاصمة الفرنسية (باريس) سنة 1971.
مصادر ومراجع:
- "معلمة المغرب"، مجموعة مؤلفين، مطابع سلا، الملحق رقم 25، الصفحة 11.
- "جريدة المساء" المغربية، عدد 5 نونبر 2008.
- موسوعة "ويكيبيديا"، بالعربية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.