شعار قسم مدونات

الموت الذي تمدد على أرض الغوطة

مدينة دوما كانت توصف بأنها عروس الغوطة لكنها تحولت إلى مدينة أشباح جراء القصف والدمار (الجزيرة)

في نهاية شهر فبراير/شباط وبداية مارس/آذار من كل عام، ها هو يُطرقُ باب أحزاني من جديد.

من الطارق!؟

أنا أحداث عام 2018

لا أعرف من الذي يدفع تلك الأحداث إلى أن تطرق بابي. أفتح بابي مُرَحِباً بتلك الأحداث البطولية. أرحبُ بها بصدرٍ واسع وعينين نصف فائضتين بالدموع. أغلق جفوني بسرعة فأنا في حالة هلع، أأتذكر أم لا وكيف لا؟ وأنا جزءٌ من الحادثة. كيف لا وأنا شاهد وفاقد ومهجّر، كيف لا وأنا من أهل الغوطة.

سأرحّبُ بهذه الذكرى من كل سنة لكي أتذكر وأذكر الجميع، كي لا ننسى أبدا سأذكر الجميع بهذه الجملة:

يا الله ما لنا غيرك يا الله.

نعم، نحن أهل الغوطة طالبنا بالحرية ونلنا شتى أنواع العذاب والقصف والاعتقال والحصار والقلة والكيمياوي والحرمان والتهجير، نلنا كل هذا وأكثر على أبصار الجميع، ولم ينبس أحدهم ببنت شفة.

من أحداث الغوطة

انتهى صوت أذان المغرب وحل الغسق. أصوات سيارات الإسعاف والفوضى وأصوات الصراخ تعج في كل مكان، حينها لم تكن الأسِرّة كافية في المستشفى لاستيعاب كافة الجرحى، فهم مبعثرون على الأرض وفي الممرات وعلى جانب الجدران. كانت الأرض والجدران كلها ملطخة باللون الأحمر.

كان لون المرضى موحدا بين اللون الأحمر من الدماء، والرمادي من غبار القصف؛ كان الصوت الطاغي: "يا الله ما لنا غيرك يا الله".

كان ذلك الصوت يتكرر دائما على مسامعي وأنا أقوم بإسعاف الجرحى، كان الإسعاف مكتظاً بالجرحى.

انتهيتُ من عملي واتجهت نحو ذلك الصوت، اتبعت الصوت وأنا أضمر حشرجة في صدري. كان الذي يصرخ رجل مصاب في يده ورأسه، وهو يردد "يا الله ما لنا غيرك يا الله". كان لون الغبار قد غزا ووجههُ، وقد غسلت الدموع طريقها على وجنتيه.

للأسف، فهو قد فقد زوجته وطفله، وظل طفلٌ مفقود. لم تكن لي شجاعة لكي أخبره عن أي شيء، فكان الحدث سيد الموقف، الرجل ما زال يكابد ويبحث ويردد نفس الجملة "يا الله ما لنا غيرك يا الله".

ها قد أصبح قريبا من جثة طفله وزوجته، لكنه رمقهما بطرف عينيه ولم يتجه نحوهما مع تكرار تلك الجملة، فجأة دخل الرجل قسم الأشعة، وشاهد طفلا قد لفَ الضماد رأسه، وكان يضع يده في وشاح ليستعد للتصوير الشعاعي، هرولَ الأب باتجاه الطفل وضمهُ قائلا "الحمد لله، ما بقي غيرك يا ابني".

بكى الجميع، وبكيت أنا، وقبضت أصابعي بشدة، وقلت معه "الحمد لله".

وأيم الله هذا ليس مشهدا من فيلم، هذا واقع عشناه لحظة بلحظة.

بعد 4 سنوات من التهجير

تطوف الذاكرة بي نحو دمشق وغوطتها، وتنكأ الأشواق المذبذبة.

أحدث نفسي، دعني أتخلى عن تلك الكلمات الرنانة، دمشق وياسمين وشوق وحب. هناك أشياء أهم بكثير من الكلمات العاطفية، أهم بكثير من الشعارات والهتافات. هناك نبض تحت تلك الأبنية التي قصفها نظام الأسد، نبض يوحي إليك أنهُ توقف لكنهُ ما زال ينبض، إذ إنهُ ينبض في قلوب الشهداء وتحت الركام وتحت القبور وداخل المعتقلات وخارج البلد، يبوح بصمت للجميع:

ارحل أيها القاتل

ارحل يا من أخرجتني من موطني

ارحل يا من جعلتها تفقد أبناءها

ارحل يا من قطعت أوصالنا

ارحل بكل ما تعنيه مفردات اللغات

ها قد مرت 4 سنوات على مأساة وتهجير أهل الغوطة. من يدري ما حدث، أحقا تعتقد أن الكاميرات سجلت كل ما حصل؟ هل كانت الكاميرات في كل مكان؟ كلا لم تكن أبدا، فلم تكن مع التي فقدت ابنها، ولا مع الذي بترت قدمه، ولا مع من مات، ولا مع صرخة الطفل الأولى من شدة الألم. كانت الكاميرا تصور جزيئات من الحياة التي نعيشها، أقسم لكم أني لا أهول لكم الحدث بل هو أشد مما كتبَ القلم.

  • متعبٌ من تراكم التفاصيل القاسية التي سببت لي الاكتئاب.
  • متعبٌ من زحمة المشاهد القاسية في ذهني.
  • متعبٌ من صوت الطائرات والصواريخ التي تتذكرها أذناي.
  • متعبٌ من مشهد وداع عائلتي ووطني.

وبعد التعب حتماً سيكون هناك سرور.

هذه المشاعر ليست ثابتة، ومن نعمِ الله علينا أنها تتغير.

  • مسرورٌ لأنه "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ".
  • مسرور لأنه "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ"
  • مسرورٌ لأنه "قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا".
  • مسرورٌ لأني مؤمن بالله، وأن الله لا يخيب ظن عباده الضعفاء، وكلي أملٌ بالنصر القريب.

اللهم إنا مغلوبونَ فانتصر

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.