شعار قسم مدونات

نظرة مقارِبة.. بين علم الجرح والتعديل والعلم التجريبي

المجلس الحديثي شهد مشاركة كوكبة من علماء الأزهر، الصورة مأخوذة من صفحة الجامع الأزهر الرسمية
المجلس الحديثي شهد مشاركة كوكبة من علماء الأزهر (مواقع التواصل الاجتماعي)

"الحديث دراية ورواية، والتاريخ دراية ورواية، يصبح لدينا مصطلح للتاريخ كما أصبح لعلماء الحديث مصطلح الحديث".

بهذه الجملة يستهل أسد رستم كتابه عن مصطلح التاريخ، وهو المصطلح المقتبس من علم مصطلح الحديث؛ حيث هو قواعد وأصول علم الحديث والرواة والروايات والمحدثين. ثم رجع أسد حينها إلى علم مصطلح الحديث ليدرس علم التاريخ في جامعة بيروت وذلك لسببين، أولهما الاستعانة باصطلاحات المحدثين، وثانيهما ربط ما يضعه لأول مرة في العربية بما سبق تأليفه في عصور الأئمة المحدثين.

ويعترف رستم كل الاعتراف بأن هذا العلم -علم الميثودولوجيا- هو ذو أصل عربي خالص؛ حيث يقول "ولو أن مؤرخي أوروبا في العصور الحديثة اطلعوا على مصنفات الأئمة المحدثين، لما تأخروا في تأسيس علم الميثودولوجيا حتى أواخر القرن الماضي".

  • قال محمد بن سيرين:

إن هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذونه.

وفي رواية أخرى: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون.

يمكن القول إن علم مصطلح الحديث يختلف عن باقي العلوم الشرعية والإنسانية من حيث درجة قطعيته، ويتشابه مع العلوم التجريبية إلى حد كبير، إن لم نقل إلى درجة القطع واليقين، فيمكن القول إلى درجة يقاربها.

وهذا الكلام لا يقال اعتباطا أو تشهيا أو ردة فعل على ما يجري من استنكار للحديث وثبوته ومصداقيته، بل هو نتاج جهود علماء مصطلح الحديث وبالأخص علماء رجال الجرح والتعديل.

هذا العلم كان سببا في حفظ الحديث بعون الله تعالى وهو ما يجهله أكثر المنكرين للسنة ويدجلون على أتباعهم، ويستغلون فرصة جهل الناس بهذا العلم، ويطعنون ويشككون بالبخاري، وغيره من مرويات السنة، وكذلك بالرواة كالصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، والذي شكل حافظة للحديث لم يأت التاريخ بمثلها.

ولبيان ذلك أرجو أن يسعني هذا المقال لتوضيح كيف أن هذا العلم إن لم تكن نتائجه تشابه العلم التجريبي بل تقاربه إلى حد كبير، ثم يأتي مستندا إلى أريكته وبكل سهولة يقول "هذه السنة لم تدون… هذه الأحاديث لم يقل بها محمد (صلى الله عليه وسلم)".

لا أريد أن أجعل من مقالتي هذه ساحة لهم بمقدار ما أشعر بضرورة هذا البيان وهو مقاربة علم الجرح والتعديل للعلم القطعي التجريبي وأستعين بالله وأقول:

إن مراتب الرجال الرواة في علم الجرح والتعديل 8 كما قررها ابن أبي حاتم، وهي 4 في التعديل و4 في الجرح، قال ابن أبي حاتم (الجرح والتعديل 2/37):

  • فإذا قيل للواحد إنه ثقة، أو متقن ثبت، فهو ممن يحتج بحديثه.
  • وإذا قيل إنه صدوق، أو محله الصدق، أو لا بأس به، فهو ممن يكتب حديثه، وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية.
  • وإذا قيل شيخ، فهو بالمنزلة الثالثة، يكتب حديثه، وينظر فيه، إلا أنه دون الثانية.
  • وإذا قيل صالح الحديث، فإنه يكتب حديثه للاعتبار.
  • وإذا أجابوا في الرجل بـ"لين الحديث"، فهو ممن يكتب حديثه، وينظر فيه اعتبارا.
  • وإذا قالوا ليس بقوي، فهو بمنزلة الأول في كتبة حديثه.
  • وإذا قالوا ضعيف الحديث، فهو دون الثاني، لا يطرح حديثه، بل يعتبر به.
  • وإذا قالوا متروك الحديث، أو ذاهب الحديث، أو كذاب، فهو ساقط الحديث، لا يكتب حديثه، وهي المنزلة الرابعة".

وقد سار العلماء في طريقين؛ بين مفصل في المرتبة، ومختصر لها، فبعضهم أضاف أوصافا أخرى للتعديل وبعضهم أوصافا للجرح، واجتهد العلماء في هذا الإطار حتى بات أساسا يعرف من خلاله أحوال الرواة.

بالجملة اتفق العلماء على ضرورة عرض جميع الرواة على هذا المراتب، وقد نجد بعض الرواة غير معروفين لم يحكم بجهالتهم بالضرورة، فهؤلاء يسمون المسكوت عنهم، وهم قليلون، مثلا البخاري سكت عن عدد منهم لعدم استحضار حكم فيهم أو نقل عنهم، لكن هؤلاء جرى قياس روايتهم بطريقة أخرى، فمنهم من رجح قبول روايته ومنهم من رجح عكس ذلك، وبالمطلق هم محكوم على روايتهم، فنتائج الجرح والتعديل محصورة بشكل دقيق، وأخطاء الرواة حسمت وأحصيت بشكل دقيق جدا، ويبقى خلاف في وجهات النظر فقط، وهذا يدحض أقوال من ينكر الحديث بالجملة ويضرب بهذه الجهود عرض الحائط إما لجهله أو لتدليسه.

لأن الرواة تم استقراؤهم بدرجة كبيرة من الشمول والقطعية، فلن تجد هناك راويا لم يحكم عليه، ولو أننا وجدنا راويا بلا حكم هنا، فقد قال العلماء هو مجهول وروايته لا يحتج بها، في هذه الحالة لم يعرف ومع ذلك أعطوه حكما، بالتالي جميع الرواة 100% تم الحكم عليهم ومعرفة درجة قبول أو رفض روايته، يعد هذا بمثابة اختبار وتجريب في ميزان عادل دقيق، فلم يتم اختراق هذه القاعدة الصارمة في الجرح والتعديل بأي وجه من الوجوه، ولا سيما أن كل الرواة تم اختبار رواياتهم ومقارنتها مع الآخرين، حتى لو كان الراوي ثقة.

ومن أمثلة التجريب أن الراوي الثقة يجب أن يوافق الثقات، ولكنه بشر يصيب ويخطئ، فإن أصاب فقد عزز رواية الثقات الآخرين، وإن خالف رواية الثقات فحديثه شاذ، وأما إن أخطأ فحديثه معلول، ولا قداسة لثقته أو لشخصه في التقوى والورع هذا شيء آخر، ولكن المنهجية العلمية في الاستقراء والاستنتاج تقتضي إما أن نقبل حديثه أو لا، وهذا هو التجريب، ويتم تجريب واختبار أحاديث الثقات، وغير الثقات، وبالتالي صارت كل الروايات محكوم عليها، فلو وجدنا أيضا رواية أو حديثا لم يحكم عليهما قلنا إنه مجهول، ولا يحتج به.

وهكذا يمكن القول إن استقراء الرواة ومقارنتهم مع بعضهم في حفظهم واستقراء الروايات ومقارنتها مع بعضها في الزيادة أو النقصان تعد بمثابة الحكم التجريبي على الروايات، وذلك بفضل المجهودات الكبيرة التي قام بها علماء الجرح والتعديل طالبين بذلك الأجر والثواب من الله بدون أن يفعلوا هذا لوكالة ناسا أو للمختبرات العلمية ليأخذوا جائزة نوبل أو جائزة الملك، بل تم ذلك في مختبر علم التقوى واليقين في مختبر الجرح والتعديل، والذي يعد بمثابة أكبر اختبار وأدق تحليل للرجال، حتى إن أحكام العلماء في بعض الرواة أيضا تم اختبارها وتدقيقها، فلا أعرف علما إنسانيا أدق من هذا العلم في التوثيق والتجريح، ولن تجد حالة من حالات الرواة أو الروايات، إلا تم الحكم عليها بالمجمل، بالتالي صار لدينا موثوقية عالية ومصداقية لا يمكن أن تتخلف، وأنا أستغرب كل الاستغراب ممن يتجاهل جهود علماء الجرح والتعديل على مدار مئات السنين، ثم يأتي وهو جالس على أريكته يقول هذا الحديث غير صحيح أو صحيح أو يخالف العقل والمنطق على الرغم من أن علماء الحديث هم أول من أسس علم نقد المتن بعد ثبوت الحديث، وهذا موضوع آخر من الممكن تناوله في مقالة أخرى.

إن درجة الموثوقية والمصداقية في علم الرجال نابعة من استخدام الاستقراء التام للرواة والروايات، ومن ثم تأتي عملية استنتاج أحكام القبول والرفض، وتطبيق هذا المنهج على تلك الروايات، ومن ثم تعميم النتائج، ومن هنا يمكن القول:

إن هذا العلم قارب الحقيقة العلمية ويمكن الأخذ به ويبقى هامش الخطأ النسبي قليل جدا، لأننا استخدمنا الاستقراء والاستنتاج والتطبيق ثم التعميم، وهذه هي أدوات العلم التجريبي.

أترككم مع بعض أمثلة التدقيق في الرواة والروايات لتتعرفوا على الأمانة والدقة التي سار فيها هذا العلم وعلى دقة التفاصيل في توثيق أو تجريح الرجل، لا لشخصه بل لحفظه، وبالتالي للأخذ منه أو الرد عليه، ولا أقصد من الأمثلة بيان حال الراوي نهائيا؛ وهذا يحتاج لعلماء الجرح والتعديل وتكون دراسته في مظانه من كتب الجرح والتعديل والاطلاع على كل ما قيل في الراوي، ولكن للتمثيل فقط، وللدلالة على الدقة في أحوال الرجال بأشياء لعلها لم تكن إلا في هذا العلم.

ففي كتب الجرح والتعديل إذا ذكر الاسم يذكر بعد ذلك تاريخ ولادته ووفاته وشيوخه وتلاميذه وبعضا مما يساعد في بيان حاله وحفظه وذاكرته وضبطه وخطئه وغير ذلك مما تفيض به تلك الكتب بمناهجها المتنوعة، وهذه 3 أمثلة من كتاب تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني في هذا العلم، لعلها توضح المقصود ويمكن للقارئ أن ينظر فيه وفي غيره للاستزادة:

  • حمران بن أبان: راوٍ من رواة الحديث وممن خضع لميزان الجرح والتعديل، ومما قيل فيه "كان كثير الحديث، ولم أرهم يحتجون بحديثه وحكى قتادة أنه كان يصلي مع عثمان، فإذا أخطأ فتح عليه". (تهذيب التهذيب 3/24، ابن حجر العسقلاني).

لتحليل هذا النقد نرجو النظر فيه جيدا، والنظر في دقة الكلام فيه، والموقف الذي استخدم لبيان حال الرجل حيث إنه كان يفتح على عثمان عند خطئه، فهو حافظ متقن.

  • ثابت بن أسلم البناني، قال عنه حماد بن سلمة "كنت أسمع أن القصاص لا يحفظون الحديث فكنت أقلب (أغير) على ثابت الأحاديث، فاجعل أنسا لابن أبي ليلى، واجعل بن أبي ليلى لأنس، أشوشها عليه فيجيء بها على الاستواء". (تهذيب التهذيب 2/3، ابن حجر العسقلاني).

تحليل هذا الكلام، هو تعديل حماد لثابت، حيث إنه كان يختبره، فيقلب الأسانيد فيأتي بها ثابت على وجهها الصحيح لشدة حفظه وإتقانه.

  • انظر إلى هذه الدقة والأمانة والتفصيل في مرويات الراوي، قال عبد الله بن علي بن المديني -وهو يتكلم عن إسماعيل بن عياش- "ما كان أحد أعلم بحديث أهل الشام من إسماعيل لو ثبت على حديث أهل الشام، ولكنه خلط في حديثه عن أهل العراق". (تهذيب التهذيب 1/324، ابن حجر العسقلاني).

أيها القارئ الكريم لا يغرنك ما يقال عن حديث نبينا صلى الله عليه وسلم من الطعن والتشويه، بل ارجع إلى علم الجرح والتعديل واقرأ فيه بعضه ولاحظ دقة وأمانة وتقوى وعلم وخبرة وجهود أصحاب هذا العلم؛ ليتضح لديك كيف أن الله سبحانه وتعالى حفظ هذا الدين بالحجة والبرهان.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.