شعار قسم مدونات

ريان.. المنقذ الصغير

الطفل المغربي ريان (الجزيرة)

في أقصى شمال المغرب وبالضبط في ضواحي مدينة شفشاون كان يعيش طفل صغير اسمه ريان في بيت متواضع ينقصه الكثير لكن تملأ أركانه ضحكات هذا الطفل ذي العينين الحالمتين الشغوف باللعب وحب الاكتشاف.

وفي الضفة الأخرى من جبال الريف كانت الحياة تمضي على إيقاعاتها المتعثرة، حيث تجد من جهة التافهين يحتلون صدارة المجتمعات وينفخون ريشهم كضفدع خال نفسه طاؤوسا غير مكترثين بجهلهم وتماديهم في إغراق مجتمعاتنا في بركة الهوية المفقودة.

ومن جهة أخرى، نجد المثقفين والعاملين في القطاعات الحيوية منغمسين في قضاياهم ومهامهم وراضين بمجتمع اعتادوا منه التبخيس والإهمال، بعبارة أخرى فقد كان كل واحد منا يغني على ليلاه التي يرى فيها اختزالا لمعاني الجمال والوجود والاستمرار إلى أن شاع خبر سقوط طفل مغربي في بئر "الصوندا".

حقيقة، لقد كان استقبالنا لهذا الخبر في بداية الأمر شبه عادي لأننا اعتدنا سماع حوادث أكثر بشاعة وانتظار الأسوأ والحزن قليلا ثم العودة للحياة الطبيعية، لكن مع مرور الوقت صار الحدث هو سيد الساحة المغربية، لا وبل العربية والعالمية، وتعالت أصوات الشعوب من كل بقاع العالم بضرورة إنقاذ ريان الذي رصدته كاميرا المسعفين حيا يتنفس ويتحرك ويصارع من أجل البقاء.

فجأة توحدت الشعوب واجتمعت القبائل على صخرة الأمل الصلبة التي لا تقبل التكسير، وشهدنا تعاطف شعب الجزائر الشقيقة في المغرب الحبيب متجاوزين بذلك الخلافات الدبلوماسية التي كادت أن تعصف بجوارهم واتحادهم، وانقلبت المنافسة على كأس أفريقيا للأمم تضامنا مع قضية الطفل، حيث شوهدت صورته على المدرجات وعلى قمصان اللاعبين، كما وقد شاهدنا بأم أعيننا أطفالا سوريين وفلسطينيين يأملون في نجاة رفيقهم رغم صعوبة وضعيتهم وتشتتهم وتجرعهم مرارة العيش في ريعان الطفولة.

لقد وقع ريان في قعر بئر عميقة فاق عمقها الـ30 مترا، سقط في باطن الأرض واتكأ على صخرة طينية حالت دون محاولات 3 متطوعين قرروا المغامرة بأرواحهم والنزول إلى القعر لانتشاله، ومع ذلك كنا نراهم متشبثين بالعودة وبمحاولتين ثانية وثالثة لعل الفرج المرتقب يأتي، لكن دون جدوى.

وفي خضم هذه المحاولات البطولية التي كنا نخالها انعدمت وتلاشت منذ زمن لم تتوقف السلطات المغربية عن عملية الحفر العمودي ثم الأفقي، مع مراعاة طبيعة التربة وخطر الانهيار الصخري مع كل محاولة شديدة.

استمرت هذه العملية لأزيد من 100 ساعة من الزمن توقفت فيها أنفاس العالم بأسره واختلطت فيها مشاعر الأسى بقوافل الأمل، وتعالت فيها أصوات الصحفيين الذين اختلفت ألسنتهم، لكن لم تختلف دعواتهم وتوسلاتهم وآمالهم في إنقاذ الصغير.

وفي عين المكان اصطفت حشود من المواطنين على جنبات البئر منتظرين بشوق خروج البطل الصغير سالما مستبشرا بخلاص كانوا يظنونه سهل المنال، كانت كل العيون متجهة صوب النفق المحفور موازاة مع البئر لرصد تحركات رجال الوقاية المدنية ومغامرات الصحفيين لأخذ المكان المناسب للتغطية، وآليات المهندسين الذين كانوا يدققون في الأمتار المتبقية وطريقة اختراق التربة دون فقدان ريان أو الإطاحة بنفوس بشرية أخرى جسدت لمعاني الإيثار والتضامن غير المسبوقين.

ثم تبقت فقط 10 أمتار، ثم 8، ثم 5، ثم متران، وظلت فوهة النفق كخلية نحل تشهد الداخل والخارج والمتفائل والمتشائم والمنهك واستُبدِلت الأمتار ببضعة سنتيمترات، ثم فُتِحت أبواب سيارة الإسعاف وتقدم والدا الطفل نحو الأمام استعدادا للحظة عناق حارة مع طفلهما الذي لبث 5 أيام في غياهب الجب، ثم صعدوا جميعهم لسيارة الإسعاف وانطلقوا بعيدا عن الحشد الذي اكتفى بالتكبير والتهليل وترديد عبارات الحمد والامتنان لله عز وجل ومن بعده للسلطات المغربية التي سخرت كل الموارد والآليات في سبيل انتشال هذا الملاك الصغير.

وبعد هنيهات سُمع دوي خبر مفجع في سماء العالم، لقد مات ريان، لقد صعد إلى اللحد بعدما قفزت منه معاني الإنسانية في لحظة نجاة نُفذت في الوقت بدل الضائع، لقد مات بعدما أحيا فينا قيما خلناها دفنت في القبور المنسية، لقد استطاع توحيد شعوب مختلف القارات وطمس ملامح النزاعات والنرجسية البشرية.

نزل الخبر كالصاعقة على المتتبعين من جل أرجاء العالم، لا بل كاد البعض لا يصدق هذا النبأ العظيم الذي أصاب أفئدتنا بشلل فكري جسيم وكاد أن يقودنا إلى طريق اليأس والإحباط.

بيد أن الحقائق والعبر الكامنة وراء وفاة هذا الطفل تكاد لا تعد ولا تحصى، فقد قادته خطواته أولا إلى البئر، ثم علق فيها ولبث مجاهدا منتظرا طوق السلام لمدة 5 أيام وليالٍ، لقد عانق التراب في الوقت الذي قامت فيه الدنيا ولم تقعد من أجل إنقاذه، لكن التراب أبى إلا أن يضمه ويحفظه حتى من قطرات المطر التي ابتلعتها الغيوم في آخر لحظة حتى لا تُغرق وسادته أو تعيق خلاصه الأخير.

لقد ظل مرابطا لأيام في الوقت الذي كانت فيه كل الجهود تتضافر من أجل هدم جبل بأكمله تحت عيون المراقبين والخبراء ورجال الأمن والوقاية المدنية والمتطوعين والمرابطين الرافعين كفوفهم للسماء في انتظار لحظة الفرج.

وكانت تلك الأيام كافية بإعادة توجيه بوصلة الحياة إلى مسارها الصحيح الذي يطمح لصناعة الإنسان الذي كاد أن يندثر، وإعادة الاعتبار للمهن الشريفة ولمعاني التآزر التي عبرت عنها قرية "إغران" ولمفهومي الصبر والحياء اللذين اختزلتهما عيون الأم المكلومة ووجه الأب الشاحب الحزين.

لقد تكللت دعواتنا بإنقاذ ريان باستجابة تخطت حدود هذا العالم المادي، لأن وفاته كانت بمثابة ارتقاء لروحه الطيبة، ذلك أن الأبطال الحقيقيين والملائكة الطاهرين لا يليق بهم الاختلاط بأهل الأرض، لأن مهامهم سامية تماما مثل ريان الذي أوفى بمعاني اسمه المعبر الجميل ولم يرحل إلا بعد أن روى عطشنا الجارف للقاء مفاهيم الإنسانية والتضحية والأخلاق حتى قبل انتهاء ولادته القيصرية من باطن الأرض التي لن يلتئم جرحها إلا بعد ضمتها الأخيرة له بعد موكب جنائزي لا يليق سوى بأولئك الذين سيلجون الجنة من باب الريان.

وفي الأخير، وجب القول إن العالم برمته كان يتابع محاولات إنقاذ نفسه من بئر التفرقة والأنانية والجبروت، أما ريان فقد كان هو المنقذ البطل الذي أدى مهمته كما ينبغي، وحصد حب الآلاف وصعد مبتسما إلى السماء منتظرا أن يرى حصاده يزهر في بقاع الأرض التي ظلت عطشانة مترقبة للحظة ارتواء طال انتظارها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.