قد لا يتضح ما أضافه مونديال قطر 2022 بسهولة إلا إن قمنا بقراءة متأنية نوعا ما لسياق الرياضة، وفلسفتها، وتاريخها، وكيف نظرت إليها الشعوب، وتعاملت معها.
وعي الإنسان ورغبته في منافسة غيره في الميادين كافة هو ما يصنع فكرة المنافسة الكروية والرياضية، وهذه الفكرة موجودة منذ الأزل، ولاحظها العلماء المسلمون؛ إذ يقررون أنه لا يخلو إنسان من حسد، لسبب بسيط وهو رغبة الإنسان في التميز على من حوله.
وفي ما يتصل بالشكل الاحترافي للتنافس الرياضي، فإن العرب والشرق الأوسط قبل الإسلام، وبعده حتى الأزمنة الحديثة لم يعرفوا المفهوم الحديث للمنافسة، ولا حتى نظيره في الألعاب الأولمبية لغياب مفهوم عبادة البطل، والإنسان الإله؛ فالآلهة الإغريقية والرومانية كانت آلهة متأنسنة، اكتسبت كل ما في الإنسان، وزادت عليه الخلود الإلهي، علاوة على معنى التصارع مع الطبيعة، في صورة الصراع مع الحيوانات المختلفة، الذي يتحمل الأسير مثلا نتيجته بأن تفترسه الحيوانات إذا خسر، فالبقاء للأقوى فقط، ويتصل هذا برؤية الأوروبيين للطبيعة، فهي شيء مهاب، يتقبل كما هو فنيا، ويصارع رياضيا. ولإسماعيل الفاروقي رحمه الله تحليل للفنون الأوروبية يرى فيه أن الأوروبيين قبلوا الطبيعة كما هي، ولم يعدلوها، ولم يهذبوها للارتقاء بها، بل أبقوها، وضاهوها وحسب.
بينما لم يعرف العرب -والساميون عموما- عبادة الأبطال، بل قصارى ما عرفوه تخليد مآثرهم بالأشعار، بل حتى أبطال كجلجامش لم يرتقوا أبدا لمصاف الآلهة رغم سفرهم الطويل للحصول على سر الخلود، وقصارى ما في الأمر أن الساميين عموما لم يميلوا لتخليد الأبطال ورفعهم لمصاف الآلهة، بل كان على هؤلاء الأبطال الفناء لصالح القوم والقبيلة.
وقام الإسلام بفك العلاقة مع القبيلة لصالح الدين، فغدت هناك منظومة قيمية تحث على نكران الذات في الأصل، ولا تحث على التنافس البدني لأجل قيمة دنيوية، ومن هنا لم يكد المسلمون يعرفون حتى التنافس الرياضي، والألعاب الجماعية لغرض أبعد من الترفيه والتسلية.
وجاءت المنافسات الرياضية الحديثة تعبيرا عن التغيرات الدينية، والاجتماعية، والثقافية الأوروبية، فظهرت الألعاب الأولمبية ختاما لكل التغيرات التي بدأت في عصور النهضة، والثورة الصناعية، فعبّرت الرياضة عن القيم الجديدة؛ فالتراث الإغريقي تم إحياؤه بالألعاب الأولمبية، والبطولات تعبر عن الروابط الأممية الجديدة قارية، وعالمية، وتشابك ذلك مع السياسة، فغضب هتلر لتغلب عدّاء أميركي أسود في الألعاب الأولمبية لكون هذا مخالفا لنظرية التفوق الآري مثلا.
وعلى مستوى كرة القدم، فإن أنديتها عبرت عن مقاومة الاستعمار في شمال أفريقيا؛ فالشيخ عبد الحميد بن باديس يؤسس فرق المولودية في مختلف مناطق الجزائر، مستغلا الاحتفال الشعبي بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، كما حاول المناضلون الآخرون إنشاء فرق الشبيبة أيضا، والأمر ذاته في المغرب، وحتى السودان لا يزال الهلال والمريخ يتنافسان على أيهما نادي الحركة الوطنية، في حين كان برشلونة -ولا يزال لحد ما- معبرا عن القومية الكتالونية، بينما يعبر ريال مدريد عن الملكية الإسبانية، ومركزية اتحاد قشتالة، وأراغون في تكوين إسبانيا ما بعد غرناطة 1492م، وأنت تجد جمهور ويلز فخورا بفريقه المتأهل لأول مرة لمونديال قطر 2022م، كما تجد في المقابل حديثهم عن إحياء اللغة الويلزية، والتحدث بها.
وكما نلعب الكرة ونعشقها، تعشق مستعمرات التاج البريطاني الكريكيت، وتتنافس عليه، وتكتسب مباريات الهند وباكستان روحا قتالية حقيقية مناظرة لتلك التي تحدث عند تبديل الحرس على حدود البلدين في غروب شمس كل يوم، يبدو أن الكريكيت يعبر عن الصبر، والهدوء البريطاني، الذي يوافق النفس الطويل، والتأمل الآسيوي، ولا انتهاء الزمن في الثقافة الهندية القديمة.
أما البيسبول وكرة السلة فيعبران عن التحفز، والمزاوجة بين الأساليب المختلفة، لهذا شاعا في ثقافات العالم الجديد في أميركا الشمالية، بينما توهجت كرة القدم بسرعتها، ومرونتها كأنها تحيي في نفوس اللاتينيين ثقافة الهنود الحمر القديمة بجماعيتها، وقوتها، وحماسها.
لا عجب إذن، والحالة هذه، أن يتحول لاعبو كرة القدم لأبطال وطنيين، أو رموز لبلاد؛ فبيليه ومارادونا يمثل كل منهما وطنه بصورة لا يفعلها روائي ولا فنان، لأنهما وصلا للناس عبر ذاكرة المشاهدة التلفازية، بينما يختفي نضال بوشكاش، وديستفانو، ولاعبو المجر المهاجرون لإسبانيا وغيرها، خلف ستار ذكريات الحرب الباردة التي لم يعد يتذكرها أحد.
لماذا يتحمس الناس لكرة القدم؟
يردد البعض كلاما من نوعية التعويض النفسي، بمعنى أن التمرد وسب الحكم تعبير عن السخط السياسي، وأن تشجيع الفرق بحماس تعويض لخيبة الأمل تجاه المجتمع الذي لا يتحرك، ولم يعد متكاتفا، وأن روح الانتماء للفرق تعكس خيبة الأمل تجاه الوطن بكامله.
وأزيد، ستلاحظ عزيزي القارئ أن البلاد التي تسود فيها روح انفصالية، ويغيب عنها الإنسان القومي الواحد، يسود فيها تشجيع الفريق المحلي، ويضعف تشجيع الفريق الوطني، ولهذا ففي البلدان التي تواجه مصاعب انفصالية، أو إشكالا في الهوية يصاحب التشجيع الرياضي فيها تشنج غير منطقي، أو شغب يخرج عن السيطرة.
ما الذي أضافه مونديال قطر 2022 للرياضة في الختام؟
ما تحقق في مونديال قطر 2022 كان في الحقيقة شيئا كبيرا، فكسر الحواجز بين الشعوب، والثقافة العربية والإسلامية في صيغتها القطرية، والمزاوجة بين القوانين العالمية التي اعتمدتها الفيفا والثقافة المحلية الخاصة، التي لطالما أكدت خصوصيتها للآخرين، وكانوا يتمنعون عليها، كل هذا سيمنح مفهوم القيم الرياضية تطبيقات جديدة لم تكن ربما متوقعة في يوم من الأيام.
فمنع الخمور، وتنظيم حركة وتنقل المشجعين، وحضور الثقافة عبر جهود وزارات الدولة المختلفة، ومؤسساتها الثقافية سواء ذات الطابع الوطني أو الديني؛ كل هذا جعل المونديال أكثر رقيا، ونسخة مختلفة بحق، قد لا تتكرر بسهولة في أماكن أخرى.
وأثبت حقيقة مهمة أيضا وهي أن الرياضة تعيد الناس للمعنى الإنساني، فتغذي الروح والبدن معا، وتجعل المنافسة تساميا باتجاه قيمي، لا يقف عند تقديس الأبطال، أو تأليههم بل لملء الحياة بالقيم التي تعانق سماوات الإله الواحد.
أسود الأطلس.. زأرتم فأسمعتم حتى ما وراء بحر الزقاق.