وسط موج متلاطم تتخبطه عواصف هوجاء من النقد والاعتراض ورياح التشويش والتشكيك بالقدرات، طفت الجزيرة العربية الصغيرة على السطح، وخاطبت القريب والبعيد أن شتاءنا مختلف وتحت مظلته سيكون العبور والنجاح.
نعم، فعلتها قطر حيث لم تكن الجغرافيا يوما مقياسا يتحكم بصعود نجم الدول أو أفوله. أطلق البلد الخليجي أخيرا صافرة استحقاق كروي عالمي في سابقة تاريخية خطفت أضواء المعمورة إلى البقعة العربية الصغيرة، ما وضعها تلقائيا تحت مجهر التقييم الدولي تنظيما واستعدادا، إن لجهة البنى التحتية والتحضيرات اللوجستية والصروح الكروية والتقديمات والخدمات وصولا إلى قاع التفاصيل وأدقها.
فوجئ الجميع أشقاء كانوا أم قادمين من وراء البحار بولادة واحدة من أجمل نسخ كأس العالم على الإطلاق، العبارة التي نطق بها صراحة رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) ولهجت بها ألسنة النخب من مراقبين ومتابعين.
قيل وقد يقال الكثير لاحقا، لكن جوقة التساؤلات والتجاذبات قد طرقت أبواب الغرب بشأن جدوى استضافة بلد عربي مسلم لحدث بهذا الحجم وكذلك العناوين قضّت مضاجع كبريات الصحف العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي بشأن حدود الحريات في تلك الوجهة من الشرق، وحقوق المثليين ورفع شعارهم والتعري وشرب الكحوليات في بلد "منغلق على نفسه" كما حاولوا الترويج.
صيحات سرعان ما خفتت شيئا فشيئا إذ ارتطمت جميعها بعارضة قطرية حرفت الكرة المتدحرجة للممتعضين والمحرضين عن مسارها لتجد أنها أخطأت الهدف، فحكم اللعبة هذه المرة آثر أن يرفع بطاقته الصفراء محذرا ومنذرا، وسدد البلد المضيف رمية حرة هزت شباك ازدواجية المعايير الدولية وفضحت كواليس التلاعب والتآمر، وأعطت درسا عالي الصوت بأن الحرية لا تتجزأ ولا تفصّل على مقاس أحد مهما برع في أساليب حياكتها.
في الميدان رصدت عدسات المصورين كما عيون المشجعين والنخب المشاركة مشهدا مختلفا عن سابقاته في كأس العالم، فقطر نأت بالحدث عن مظاهر الانحلال والانحراف وكل ما يمس الخطوط الحمر لهويتها الدينية والثقافية، فليس لأحد أن يحشر العالم في زاوية واحدة، والمائدة العربية هنا تتسع ليتذوق الجميع من مدّعي الحداثة والانفتاح طعما جديدا للتعايش وتقبل الآخر واحترام ثقافته وتراثه وقبلهما ضوابط دينه.
لذا، كان الاستشهاد بآيات قرآنية في حفل الافتتاح شارة التمهيد لخطاب فحواه: احترمني في بيتي كما أحترمك في بيتك، واطلع على قيمي ومبادئي كما أطّلع أنا على شعاراتك ومفاهيمك، فتلك أسمى معاني الحرية المتبادلة القائمة على الاحترام والتعدد.
ولم يكن ذلك خطابا كلاميا مترجما إلى لغات عدة فحسب، بل هي برامج وخطط خرجت من السطور إلى الواقع، فلم يحدث أن شهدت ملاعب كأس العالم مصليات وأماكن للوضوء، ولم يحدث أن اقتطعت احتفالات جماهيرية لدقائق احتراما لصوت الأذان، إلى جانب ندوات ونقاشات فكرية وفلسفية أقامها ناشطون ودعاة حضروا من بلدان مختلفة، وفيديوهات بثتها المواقع والصفحات ولاقت ترحيب شرائح واسعة من المجتمعات الغربية، وغير ذلك من جهود بذلت للتعريف بقيم الإسلام، والمسلمين، وعبق التاريخ والتراث.
وها أنتم أيها المستاؤون المترددون حضرتم إلى الصحراء فوجدتموها باعترافكم تحفة معمارية تصنع الحياة والجمال من دون أن تغفل عن الإمساك بمفاتيح التقليد والعراقة.
فهذا لا يتناقض أبدا مع ذاك، ولم يكن لتطور أوجه الحياة وتدفق الحداثة يوما أن يمنعا الوفاء للتاريخ والمعتقد والراسخ من ثوابت، إلا أن أصحاب الهيمنة ومراكز القرار السياسي غالبا ما يعبثون ويسعون لفرض أجنداتهم على الآخرين غافلين عن قصد أو غير قصد عن خصوصية المجتمعات والتعددية وحقوقها الإنسانية قبل أي شيء آخر.
لطالما برز للنجاح أعداء، لكن مونديال قطر سيبقى تلك اللقطة الباهرة في الذاكرة العالمية التي عرّت من جهة رعاة الهيمنة والتفلّت الأخلاقي ومروّجي الدعايات والإشاعات وقدمت من جهة أخرى وبثقة ورقي مشهدا فتن بسحره عشاق كرة القدم وشعوب العالم وأغوى المحب والمبغض للقدوم والتمتع بدفء الشمس العربية في بلد صغير تألق نجما ليس في سماء الرياضة وحسب، بل غدا لاعبا أساسيا في فضاء السياسة والدبلوماسية يحرك دينامو الأحداث والمتغيرات في هذا الشرق وخليجه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.