استطاع عماد الدين زنكي -بإدارته الحازمة وضبطه الأمور وعدالته، وبمساعدة أجهزة الجيش والبريد- أن يحقق نتائج مهمة في إمارته في مجال إقرار الأمن والقضاء على المفسدين، ونشر العمران في البلاد، حيث يشير ابن العديم إلى أن البلاد عمرت في أيام زنكي بعد خرابها، وسادها الأمن بعد الخوف، وكان زنكي لا يبقي على مفسد. (ابن العديم، 1954، ج2، ص284) وكان الأمن مضطربًا في الموصل نفسها خلال الفترة التي سبقت حكم زنكي، ويورد ابن الأثير نصا يلقي ضوءًا على الموضوع، رغم ما فيه من مبالغة، يقول فيه: كان الناس لا يقدرون على المشي إلى الجامع غير يوم الجمعة لبعده عن العمارة، وكانت معظم المناطق البعيدة عن المركز خربة لا عمران فيها، ولا أمن، وسرعان ما ساد العمران هذه المناطق لدى مجيء زنكي، بفضل حمايته للبلاد ومنعه المفسدين، وكفه أيدي الأقوياء. (الجزري، 1963، ص77)
وكان لانتشار الأمن في المنطقة أثر واضح في زيادة عدد السكان في إمارة زنكي، كما غدت الموصل ملجأ للمهاجرين من بغداد بسبب فقدان الأمن هناك واشتداد الضوائق الاقتصادية. وبالإمكان معرفة الدور الذي لعبه زنكي في مجال الأمن بتتبع ذلك في الأيام التي أعقبت اغتياله، إذ اضطربت الأعمال، واختلَّت المسالك، وانطلقت أيدي الحراميَّة في إفساد الأطراف، والعبث في سائر النواحي. (خليل، 1982، ص271)
وعندما كان زنكي يسيطر على المدن، لم يكن يترك جنوده يتحكمون في مقدَّراتها ويسيئون إلى أهاليها، وينشرون الرعب والفوضى في ربوعها، بل كان سرعان ما يعين عليها واليا من قبله؛ كي تكون الكلمة والسلطة بأيدي رجال مدنيين، من أجل إحلال الأمن في المدينة وإعمارها، وكان لا يسمح -أبدًا- لجنده خلال التحركات والعمليات الحربية بأن يعتدوا على الفلاحين بنهب أو تخريب مزارعهم، فكان العسكر يمشون خلفه كأنهم بين خيطين، مخافة أن يدوس العسكر شيئا من الزرع، ولا يجسر أحد من أجناده أن يأخذ -ولو مقدارًا ضئيلا من التبن- من فلاح إلا بثمنه، أو بخط من الديوان إلى رئيس القرية وإن تعدَّى أحد صلبه. (ابن العديم، 1954، ج2، ص284)
ففي عام 528هـ -مثلاـ قام بالقضاء على أعمال النهب والفوضى التي كان يقوم بها بعض أكراد شرقي الموصل ضد الفلاحين، وفي عام 533هـ استولى على منطقة شهرزور التركمانية؛ فأصلح أحوال أهلها وخفف عنهم ما كانوا يلقونه من التركمان، وفي عام 537هـ استطاع أن يستولي على عدد من حصون الأكراد شمالي الموصل وأن يقضي على أعمال الفساد في المنطقة. (الجزري، 1963، ص64)
وفي عام 539هـ قام عسكره -إثر استرجاع الرُّها من الصليبيين- باستباحة المدينة خلال الأيام الأولى من الفتح، فلما دخل زنكي البلد أعجبه منظره، فأسف لمثله من الخراب، ورأى أن تخريبه وإخلاءه من أهله غير مستحسن من مثله، فأمر بإعادة ما أخذ من سبي وأموال، فردوا عن آخرهم، وعاد البلد عامرًا آهلا آمنًا، ثم أصدر أوامره بإعادة إعمار الرُّها، فأصلح أحوال أهلها، وخفف عنهم ما كانوا يلقونه من التركمان.
وفي عام 537هـ، استطاع أن يستولي على عدد من حصون الأكراد شمالي الموصل وأن يقضي على أعمال الفساد في المنطقة. ولا أدلَّ على حب عماد الدين زنكي للإعمار ورفقه بأهالي المناطق المفتوحة من تعيينه نجم الدين أيوب واليا على بعلبك عام 534 هـ، وهو الذي توسَّط لدى زنكي في العفو عن أمراء بعلبك الذين حكم عليهم بالإعدام، فأجابه زنكي إلى طلبه وولاه على بعلبك وأقطعه ثلثها. (المقدسي، 1997، ج1، ص87)
اتبع زنكي كذلك ما يمكن تسميته "سياسة الترحيل"، أي نقل جماعة من مكان إلى مكان آخر لتحقيق غرضين؛ أولهما: التمكين لحكمه في بعض المناطق التي استولى عليها، وثانيهما: اتخاذ بعض هذه الجماعات كقوات حاجزة بين ممتلكاته وبين مناطق الأعداء؛ ففي عام 536هـ استولى على مدينة الحديثة الواقعة على الفرات، ونقل من كان بها من آل مهراش إلى الموصل ورتب أصحابه فيها، وأغلب الظن أن آل مهراش هم حكام "الحديثة" الذين كانوا يهددون سيطرة زنكي على المدينة مما اضطره إلى إبعادهم.
وفي عام 540هـ وعندما أعلن أرمن الرُّها العصيان ضد زنكي واستطاع نائبه زين الدين كجك أن يقضي على المحاولة، أمره زنكي بإعدام قادة المؤامرة، ثم قام بترحيل بعض الأرمن من المدينة، وأحل محلهم 300 عائلة يهودية تخلصا من خطر وجودهم، وخلال فترة مبكرة من حكم زنكي قام بنقل طائفة من التركمان تدعى "الإيوانية" مع أميرهم ياروق أرسلان إلى الشام، وأسكنهم في ولاية حلب، وأمرهم بجهاد الصليبيين، ومنحهم الحق في تملك كل ما استولوا عليه من البلاد العائدة لهؤلاء.
واستطاعت هذه الطائفة -فعلا- أن تسترد من الصليبيين الكثير من الأراضي المحيطة بحلب؛ حيث بقيت بأيديهم إلى سنة 600هـ. وكان ياروق مقدما كبيرا وإليه نسبت الطائفة الياروقية من التركمان. وحققت هذه الطائفة -فضلا عن أعمالها الحربية- نتائج عمرانية؛ إذ بنى ياروق وأتباعه على شاطئ نهر قويق المار بحلب عمائر كثيرة عُرفت بالياروقية واشتهرت هناك، واستفاد زنكي في توطيد الأمن الداخلي إلى حد كبير من جهاز استخباراته الدقيق ومن البريد، ويمكن القول إن جند زنكي وحرسه وحاميات المدن قاموا -كذلك- بدور تنفيذي مهم في هذا المجال (خليل، 1982ـ ص 274)
_______________________________
المراجع:
- علي محمد الصلابي، الدولة الزنكية، دار المعرفة، بيروت، 2007، ص 61-63
- الجزري، التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، دار الكتب الحديثة بالقاهرة، ومكتبة المثنى، بغداد 1382هـ 1963م.
- كمال الدين أبو القاسم بن العديم زبدة الحلب في تاريخ حلب، تحقيق سامي الدهان، طبعة دمشق 1954م.
- ابو شامة شهاب الدين المقدسي، عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق: إبراهيم الزيبق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1418-1997.
- عماد الدين خليل، عماد الدين زنكي، مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان، الطبعة الثانية 1402هـ 1982م.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.