التجربة الشخصية؛ فتحت عيني صغيرا على أبناء الحي الذين يكبرونني سنًّا، يلعبون في ساحات الحي الواسعة وفي أزقته الضيقة بل في البيوت الصغيرة التي لا تكاد تسع أهلها.
كان الصغار يخرجون إلى الشوارع باكرا لبدء تلك السعادة الغريبة، سعادة تشوبها آلام وحروب، لم يكن لهم حكم يلجؤون إليه لينصف الضعيف منهم، لكنها رغم ذلك كله كانت تعطيهم -ولو مؤقتا- هدنة من صحبة شظف العيش وقساوة الحياة كلما حاصرتهم هموم الدنيا التي لا قبل لقلوبهم الصغيرة بها، كانت تلك أسعد اللحظات لديهم.
أما اليوم فقد شاب القذال، والتاثت حدائق القيهل، وتفرق الرفاق مثنى وثلاث في أرض الله الواسعة، وخلد بعضهم في مضجعه الأخير نسأل الله لهم العطف والحنان.
ولله عينا من رأى من تفرق .. أشت وأنأى من فراق المحصب
لم يكن بالقرية في سالف الأيام سوى تلفاز واحد لمشاهدة المباريات العالمية، وقد كنا نلقى نصبا لدخول البيت الذي نصب فيه، وغالبا نبقى خارج المنزل نسمع صخب الجماهير ولا نبصر شيئا، وفي أحايين كثيرة نزدحم على الشبابيك حتى تتقرح أرجلنا لأنه كان لزاما علينا أن نرصّ الصخر تحتها، وأما قبل ولوج التلفاز إلى القرية فكنا نكتفي بالاستماع إلى صيحات المعلق المشوشة في المذياع وتلك حقبة لم أدرك منها سوى القليل.
من ذاكرتي
لقد كانت "نطحة" زيدان" لماتيرازي من أوائل المشاهد التي انحفرت في ذاكرتي؛ فلا أزال إلى الآن بعد ما يربو على 15 سنة أذكر ذلك المشهد كأنه البارحة، وأذكر القميص الذي كنت ألبس والزاوية التي كنت أشاهد منها.
ولست أنسى وبعد كل تلك السنوات والأحداث التي مررت بها الفرح والحبور اللذين وقعا في نفوسنا ممزوجين بالفخر والاعتزاز حين علمنا في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 2010 بخبر منح قطر استضافة بطولة كأس العالم 2022.
فقد أحسسنا أن العروبة بدأت تضخ دماء جديدة في عروقنا، وأن العرب انتضوا يراعهم للمشاركة في كتابة التاريخ ثم شرعوا في نحت السطور الأولى، ولبثنا زمانا بتلك المشاعر الجياشة نبثها كلما جلس بعضنا إلى بعض، فكم سمرنا على أحاديثها وكم قطفنا من أزاهيرها المنى والأحلام حتى إن بعضنا منّته أحلامه ضلالا أن يحترف ليكون لاعبا مشهورا، فبدأ مطاردة الحلم المنشود ليكتشف بعد سنوات أنه كان يطارد "خيط دخان" فالقطار -ويا للأسف الشديد- قد فات، حينئذ فقط عرف أنه وقع في فخ الحلم المنشود.
ولكن هذا العام (2022) بلا ريب عزاء لصديقي المكلوم ولنا جميعا، فقد أبهرت قطر العالم أجمع، وأرته الدين السمح في أبهى تجلياته بعدما عبثت به طوائف شتى وشوّهت صورته الناصعة.
عن التحديات
لقد نجحت قطر في إرساء سفينة كأس العالم وفق المعايير التي تريد رغم ما واجهت من تحديات صعبة أصابت اقتصاد العالم أجمع في الأعوام الأخيرة كجائحة كورونا والأزمة الروسية الأوكرانية، وقد بذلت في سبيل إنجاح هذه النسخة الأموال الطائلة، وتعرضت منذ أن نالت استضافة كأس العالم لحملات مغرضة غير مسبوقة، لم يتعرض لها أي بلد مضيف؛ فقد دعا أهل هذه الحملات لمقاطعة بطولة كأس العالم القطرية والمنتجات الراعية لها، وقد صرحت بعض القيادات القطرية بأنها تضمنت افتراءات وازدواجية معايير بلغت من الضراوة مبلغا جعل العديد يتساءلون للأسف عن الأسباب والدوافع الحقيقية من وراء هذه الحملة.
انطباع
لقد لفت انتباه المتابعين لهذه النسخة أن قطر ركزت في هذا الموسم منذ الافتتاح على التعريف بثقافتها انطلاقا من ملعب "البيت" الذي صمّم على شكل الخيمة البدوية التقليدية، وذلك بطبيعة الحال مشفوع بالتعريف بهذا الدين القويم من خلال الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة بطرق عديدة، لعل من أحدثها تلك الجداريات الجميلة التي كتبت بأحرف عربية ناصعة ثم ترجمت، ومن مواقفها العظيمة أنها أبت أن تظهر في ملاعبها دعاية الخمور ووقفت شامخة كالجبل الأشمّ لا تزعزعه العواصف والزوابع في وجه المثلية النكراء التي تنافي الشريعة المحمدية السمحاء، فحق لهذه النسخة أن تسمى "النسخة الطاهرة" وحق للقطريين أن يفخروا بها وكذلك الأمة جمعاء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.