نظراً لشدة تأثيره في الانحراف بالنظام الأخلاقي الغربي بعيدًا عن الدين والمؤسسة الدينية، نخصص هذا المقال لواحد من أكبر فلاسفة الاتجاه العقلاني في عصر التنوير، وخاصة في النصف الثاني من القرن الـ18، ممن أسهموا في إشاعة الفكر الإلحادي الصريح، وإسقاط القداسة عن الذات الإلهية والوحي والكتب المقدسة، وواحد من أكثر المفكرين تأثيرًا في قادة الثورة الفرنسية، وقد توفي في العام نفسه الذي اندلعت فيه. وربما كان أول من طالب صراحة، من بين فلاسفة عصره، بعدم الخضوع للقوى الغيبية، لأن ذلك يشجع الناس على الاستسلام للجبابرة الأرضيين، ويمنعهم من التفكير باستقلالية، وتسلّم الأمور بأيديهم، وأول من طالب صراحة باستئصال الدين من حياة الناس جملة وتفصيلًا، واعتناق المذهب العقلاني المادي العلمي فقط، ما يجعله بحق مؤسس النزعة الإلحادية في الربع الأخير من عصر التنوير. إنه الفيلسوف الفرنسي من أصل ألماني "البارون دي هولباخ".
اشتهر هولباخ في القرن الـ18 بإلحاده وانتقاداته للمسيحية، ويعدّ بطلاً للمدافعين عن الإلحاد، وقد أسهم نقده للدين، والكاثوليكية على وجه الخصوص، في تأسيس الاقتناع عند كثيرين بأن الدين هو مصدر الرذيلة والتعاسة، وأن الفضيلة لا يمكن تعزيزها إلا في الأشخاص الذين يسعون إلى الحفاظ على أنفسهم في عالم معارفهم المباشرة.
البارون الفيلسوف
ولد الفيلسوف البارون "دي هولباخ" (١٧٢٣-١٧٨٩م) وترعرع في باريس، في أوساط الطبقة العليا من المجتمع، بين القصور الفارهة، والحفلات الصاخبة، وبعد أن تخرج في الجامعة، واتصل بمفكري عصره وفلاسفته، ظهر اهتمامه بالفلسفة العقلانية وبالمنهج العلمي، وصار ينفق بسخاء من ثروته الهائلة التي ورثها عن أبيه وعمّه، لمدة ٣٠ عامًا، في الفترة من ١٧٥٠ حتى ١٧٨٠م، على واحد من أبرز الصالونات الباريسية الفكرية والأدبية، كان يجمع كبار الفلاسفة والمفكرين والمثقفين والنبلاء والسفراء من جميع أنحاء أوروبا، حتى صار منزل هولباخ المحطة الأولى للعديد من الزوار الدوليين البارزين إلى فرنسا، وكان مقتصرًا على الرجال فقط، وكان العديد منهم ممن يعلنون إلحادهم مثل هولباخ، ويتبنّون أجندات سياسية راديكالية ثورية تطالب بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وتعارض الحكم الوراثي.
في عام 1761م نشر هولباخ كتابه "كشف النقاب عن المسيحية" الذي هاجم فيه الديانة المسيحية بشكل عام، وعدّها عائقًا أمام التقدم الأخلاقي للإنسانية. وانتقد الأديب الفيلسوف فولتير الكتاب معترضًا على ما جاء فيه، قائلاً: "هذا الكتاب يدعو إلى فلسفة إلحادية بغيضة".
وفي عام ١٧٧٠م نشر هولباخ كتابه الأكثر شهرة "نظام الطبيعة" الذي عُدّ ذروة الفلسفة المادية والإلحادية الفرنسية، والذي أعلن فيه رفضه وجود إله، ورفضه الاعتراف بالأدلة التي طرحت عليه في جميع النقاشات، حيث كان يرى أن الكون لا شيء أكثر من كونه مادة في حالة حركة مقيدة بقوانين طبيعية للسبب والتأثير، وأنه لا ضرورة للجوء إلى قوى خارقة للطبيعة لتفسير وجود الأشياء. وقد أثارت هذه الكتب ردودًا طويلة وساخنة من شخصيات بارزة، كما دان برلمان باريس وقتئذ كتابيه "نظام الطبيعة" و"الحس السليم" وأمر بإحراقهما علانية.
اشتهر هولباخ في القرن الـ18بإلحاده وانتقاداته للمسيحية، ويعدّه كثير من الباحثين بطلًا للمدافعين عن الإلحاد، وقد أسهم نقده للدين، والكاثوليكية على وجه الخصوص، في تأسيس الاقتناع عند كثيرين بأن الدين هو مصدر الرذيلة والتعاسة، وأن الفضيلة لا يمكن تعزيزها إلا في الأشخاص الذين يسعون إلى الحفاظ على أنفسهم في عالم معارفهم المباشرة.
في كتابه "نظام الطبيعة" يذهب هولباخ بعيدًا في إلحاده، حين يرى أن الجهل بالأسباب الطبيعية أدى بالإنسان إلى وضع تصورات عن الآلهة، وأن الخداع صوّر هذه الآلهة بصورة فظيعة، فعاش الإنسان حياة غير سعيدة، لأنه قيل له إن الرب قد حكم عليه بالبؤس. ولم يرغب هذا الإنسان أبدًا في كسر قيوده، لأنه تعلّم أن التخلي عن العقل، والوهن العقلي، والانحطاط الروحي، كانت وسائل الحصول على السعادة الأبدية.
تنطلق الأخلاق التي يتحدث عنها هولباخ من العلم بالطبيعة بعيدًا عن الدين والإيمان والآخرة، فهو يرى أن الأخلاق مصدر السعادة الدائمة للإنسان، وهي التي تحقق له المصلحة الذاتية المستنيرة، وأن الفشل في التعرف على الوسائل التي تحقق هذه المصلحة يعدّ خطأ كبيرًا.
الأخلاق عند هولباخ
يعدّ هولباخ الأخلاق مصدر السعادة الدائمة للإنسان، فهي التي تحقق المصلحة الذاتية المستنيرة له، ورأى أن الفشل في التعرف على الوسائل التي تحقق المصلحة يعدّ خطأ كبيرًا، وأن القواعد الأخلاقية تقود إلى السعادة والحفاظ على الذات، وأن الإنسان الذي يجهل مصالحه الحقيقية تكثر مخالفاته، وشهوانيته المخزية، على حسابه مصالحه، مخاطرًا في ذلك بسعادته الدائمة.
ولكن الأخلاق التي يتحدث عنها هولباخ هي التي تنطلق من العلم بالطبيعة بعيدًا عن الدين والإيمان والآخرة، فالناس عنده يرغبون فيما تقدمه الأخلاق، فيتولد لديهم الدافع للقيام بفعل ما هو أخلاقي، ولكن الجهل بذلك يجعل الناس يفشلون في التصرف الصحيح. ومن هنا ينبغي التحقيق في هذا الجهل، لمعرفة الجوانب التي يجهلها الناس، وأخطر أشكال الجهل، وكيفية التغلب عليها. ويرى هولباخ أن أحد أخطر أنواع الجهل هو الجهل بالطبيعة، وعلى وجه الخصوص الجهل بأسباب الخير والشر فيها، فإن الإيمان بالله والمعتقدات الدينية الأخرى، كالإيمان بالجنة والنار والخلود، يدفعنا إلى السعي وراء الحفاظ على الذات بطرق مضللة.
وهكذا يقوم النظام الأخلاقي عند هولباخ بعيدًا عن الدين والغيبيات الإيمانية، وإنما تنطلق من الموجودات والمحسوسات التي يفرضها نظام الطبيعة على النشاط الإنساني في شتى المجالات. ويعبّر هولباخ في كتابه "نظام الطبيعة" عن ذلك بقوله: "انبذ آمالك الغامضة، وحرر نفسك من المخاوف العارمة، ولا تحاول أن تغرق بآرائك في مستقبل لا يمكن اختراقه، فكر إذن فقط في جعل نفسك سعيدًا في ذلك الوجود الذي تعرفه، إذا كنت ستحافظ على نفسك، فكن معتدلًا ومعقولًا، وإذا كنت تسعى إلى جعل وجودك دائمًا فلا تكن مسرفًا في المتعة، وامتنع عن كل ما يمكن أن يضر نفسك أو الآخرين".
امتدت آراء هولباخ الأخلاقية لتشمل السياسة والدولة، حيث واصل تطوير مفهومه للدولة العادلة التي تنشأ لأغراض تأمين الرفاهية العامة للناس، مؤسسًا نظرية العقد الاجتماعي بين المجتمع وبين الممثلين الذين ينتخبهم لتحقيق مصالح الأفراد، وتأمين رفاهيتهم، والتي أفاض فيها الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، وسنتناولها لاحقًا.
ويمرّ العقد الاجتماعي عند هولباخ بمرحلتين:
المرحلة الأولى اجتماعية، عندما يدرك الأفراد أنه لا بد لهم من آخرين يساعدونهم على تحقيق رفاهيتهم، فيبرمون اتفاقًا مع بعضهم بعضا، ويتحدون من أجل الحصول على الأمن الشخصي والممتلكات والمزايا الأخرى للمجتمع. يقول هولباخ معبرًا عن ذلك: "ساعدني وسأساعدك بكل مواهبي، اعمل من أجل سعادتي إذا كنت تريدني أن أهتم بقدراتك، أمّن لي مزايا عظيمة بما يكفي لإقناعي بالتنازل لك عن جزء من تلك التي أمتلكها". ويرى هولباخ أن هذا النوع من العقد الاجتماعي بين الأفراد في المجتمع لا ينكسر أبدًا، عندما تنجح هيئة الممثلين المنتخبين في تأمين الرفاهية العامة لأفراد المجتمع.
أما المرحلة الثانية من العقد الاجتماعي فهي التي قد يُكسر هذا العقد الاجتماعي فيها عندما تفشل الحكومة (هيئة الممثلين المنتخبين) في تأمين الرفاهية العامة التي تتكون أساسًا من تأمين الملكية والحريات الأساسية، مثل حرية التعبير والاعتقاد، حيث يحق للمجتمع في هذه الحالة الثورة من أجل التغيير.
ويرى هولباخ أن الحق في الثورة نتاج الغريزة الطبيعية للحفاظ على الذات؛ ومن هنا يتوقع أن طاعة السلطة ستنهار عندما يشعر الأفراد بالحاجة إلى تأمين حياتهم. وهذا هو السبب أيضًا في ضرورة أن تهتم السلطة برعاية المواطنين وتعليمهم، وعندما تفشل في ذلك يصبح المواطنون محكومين ليس بالعقل بل بالعاطفة، وتنتج الثورة.
وكما انتقد دي هولباخ بشدة إساءة استخدام السلطة داخل فرنسا وخارجها، فقد دافع عن الملكية الخاصة، ودعا إلى وجوب أن يتمتع جميع المواطنين بالحق في تأسيس أعمالهم الخاصة، وإلى قيام الطبقات المثقفة بإصلاح نظام الحكم الفاسد.