شعار قسم مدونات

المقامة المغربية.. سطوع نجم المغرب في سماء دوحة العرب

منتخب المغرب بلغ ثمن النهائي للمرة الثانية في تاريخه
منتخب المغرب بلغ ثمن النهائي للمرة الثانية في تاريخه (الفرنسية)

حكى عدنان بن صالح الرزيني، التطواني مولدا الصويري مستقرا، قال: بين صلاة العصر والمغرب، قعدنا في مكان يقال له بلغة أهل القرن الحادي والعشرين بعد ميلاد المسيح "مقهى" لمؤازرة شباب المغرب الأقصى الذين دخلوا الثمامة مرفوعي الهامة لرفع قامة بلاد المغرب.

حول آلة تبث خبر تلاقي جيشين عظيمين، في ميدان قد اخضر وسطه وجنباته، وغصت مدرجاته، وحبلت بآلات التصوير أركانه، وطالت الأعلام حيطانه وواجهاته، ابيضت ثياب أهل المغرب الأقصى واحمرت بذلات خصومهم، تعالت الصيحات، ولما نرى حركة القوم في الميدان، وتقافز من على الكراسي الفتيان والفتيات، مناصرين فريقهم، وهو محارب عنيد يشرب من ينابيع تاريخ المرابطين والموحدين العتيد، عدا على قبيلة الكروات من توابع بلاد أوروبا المسيحية فتساوى معها في النزال والمآل، وأتبع بلاجكة الأراضي المنخفضة -تلك التي مر بالمحاذاة منها الغافقي والي هشام بن عبد الملك على الأندلس- فدكهم المغرب في خليج العرب، وتركهم متوعكين يداوون دهشتهم، فهدأت ريحهم، وخبت مصابيحهم، ولم يعودوا الغول الذي يخيف متابعيه ومبغضيه.

أعلى صاحب بذلة سوداء يدعى كلاوس -قيل عنه إنه من قبائل الأمازون الذين نكبوا على أيدي البرتغيز منذ 1500 للميلاد- يداه مؤشرا وفمه مصفرا، فالتحم الطرفان، وانتشر جمعهما في الميدان. يقول الراوي ابن صالح: دعوت وزوجي الله أن يحقق لنا المنية وينولنا البغية، لسابق علمي والناس أن هذه المعركة محط جهاز وقنطرة جواز، من عبرها سلم، ومن فوتها أثم. وتصايح الحاضرون بكلمة اشتهرت على الألسن وهي من قول جنس الإسبنيول أخزاهم الله "فاموس" (Vamos)، هيا يا رجال المغرب، الحذر الحذر، والبدار البدار من المباراة ومكايدها وما نصبت لكم كندا من أحابيلها"!

إعلان

بين الحين والحين، تبثنا عدسات القمرة أحوال قائد المغاربة، يصيح ويشير ويموه، وهو رجل أصلع الرأس، صلب المراس، ذو أصول شريفة من آل رجراجة بقبائل الشياظمة، تلك المقتسمة سهل السوس وما وراء أسفي مع إحاحان وحاضرة السويرة التي بناها سلطانهم محمد الثالث بن عبد الله، يلوح بيده تلويح العسكر للجند، فيلبي الشباب طلبه تلبية المطيع، ويبذلون في مطاوعة الكرة جهد المستطيع، وما هي إلا دقائق من عمر الزمان حتى رمى أبرعهم باللعب من دونه صحبه، وأعز ابن أنثى في المغرب وأوفاهم عهدا بكل مكان، حكيم زياش، شباك الخصوم بكرة استقرت مرماهم، فسرت في نادينا وبوادي البلاد وحواضرها الفرحة كاللهب في العروق، وكبرد النسيم في الحلوق، وطفق لاعبو الفريق الآخر يجوبون الميدان بلا طائل كالهائم، ويتحينون لقط الكرة كالحالم.

أما رواد المقهى، فلا يكاد يجلس الواحد منهم على كرسيه بعد ذلكم الهدف إلا لمحة بارق خاطف، أو نغبة طائر خائف، فرحا تارة، وخوفا أخرى. وتنتظم جماعات أخرى أطراف المقهى عدد أصابع الكف، وتأتلف ألفة أصحاب الكهف، والسماء تنهمر عليها مطرا بعنف حينا، وحينا بلطف.

واصل أحفاد طارق بن زياد طرق شباك مردة الكنديين الآتين من القسم الشمالي لقارتهم المسماة أميركا الشمالية، في منتهى الأرض عند القطب المتجمد وقانا الله، ولما استعسر رمي الشباك بالأهداف، قال أحدهم غاضبا: "لو حضر (حمد الله) هذا المقام لشفى الداء العقام"، ورد آخر ممن قعد عن يساري: "والله صدقت وبالحق نطقت، فمن العناء العظيم استيلاد الهدف من (النصيري) العقيم بأدائه السقيم"، ويصيح العامة -إثرهما- بكلمة غريبة لم يكن لنا عهد بها قبل زوال دولة الأشراف السعديين، يقولون "زيدوهم، زيدوهم، ماركيو ماركيو عليهم"، وما إن حداني الفضول لسؤال أحدهم عن معنى عبارتهم وغامض كلمتهم، حتى اهتز المكان وارتج على إثر هدف ثان ممن كانوا يتأففون منه قبيل ثوان، يوسف النصيري الفاسي، الذي اقتحم حلبة خصمه، وازدفر جرابه، وجرب حظه، فضرب بالأولى والثانية، فكانت القاضية. ولله در هذا الفتى، فقد أجلى الغمة ونفس الكربة عن العرب، وإن من أنفس القربات، تنفيس الكربات.

إعلان

ولما أراد الله لسمعة هؤلاء أن ترفع، ولدابر أولئك أن يقطع، أتبعوا ثانيا بثالث، فلم يبرح النصيري الفاسي أن وصلته الكرة، كأنما هبّ من رقدة، أو حضر من غيبة، فأطلق للريح قدميه، وقذف الكرة عاضا على شفتيه، فاخترقت سد العدو، ونزلت شباكه، فطار الفتى الفاسي فرحا، وطربنا لفعله، إلا أن المدعو رافائيل نفخ في الصافرة بعد أن أمره ذاك الجني الذي لا يرى خلف الستائر ويدعى خوليو، فأبطل النتيجة، وفرج عن الكنديين تفريجة. ومع ذا، لم يدخر الناس مدحا للأسود حتى استعفوا، ومنحوهم التصفيق حتى استكفوا.

استراح الجمعان هنيهة في ما أسماه أهل الزمان "ما بين الشوطين"، اهتبلها الشريف الركراكي للإطراء على شبانه، ونصحهم بحماس أن "اعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة"[1]، وتذكروا أن ما أنتم فيه لمن أعظم الفرص، والفرص يا شباب "بروق تأتلق، والنفوس على فواتها تذوب وتحترق"[2]، فشدوا الهمم، لتفخر بكم الأمم، ولتأمنوا بوائق الانهزام.

أدمعت السماء ونزل الغيث، فاستبشر المغاربة بالخميس المبارك الذي وافق الثاني من جمادى الأولى لألف وأربعمائة وأربع وأربعين للهجرية النبوية، إذ جاد الله في أرض المغرب، فجاد الجنود في دوحة العرب بنصر عظيم قد اقترب، وعاد الفريقان متوثبان، كل إلى ما هاجر إليه، وانقض حاملو القمصان الحمر كالريح العاصف، والرعد القاصف، مخترقين صفوف أسود الأطلس، وقاذفين كراتهم قذف الإفرنسيس كرات البنب على الجيش العلوي في واقعة إيسلي عام 1844، غير أنها لم تكن لتشفي رزء الحشود الكندية المؤملة في نصر مؤزر على أكتاف الجهود، يحفظ شرف بلادهم في يوم مشهود. أما مدربهم فيتابع في انذهال، ويزفر من المحاولات المهدورة زفرة القيظ، ويكاد يتميز من الغيظ.

يقول الراوي: يعلم الله أني وزعت نظري بين آلة بث المعركة ومرتادي المكان، أستطلع أحوال العامة وهم بين مستبشر وخائف ومؤمل وحائرة لا تدري أتشجع ذوي القمصان البيض أم الحمر، ويعلو النسوة العجب حين سماعهن أن أحد الجنود المغاربة قد عثر في مصيدة يقال لها بلغة القوم "تسلل"، وبلغة الإفرنج قبحهم الله (أور- جو) و(فويرا د خويلو)!

إعلان

تيقن القطبيون الباردون أن فرقة المغرب جماعة لا يمكن هزمها ولا تحتفر أرضها، فطال بهم الشوق لتقليص الفرق، إلى أن فرحوا فرحة أطفال العيد بهدف مارق من ساق سابق، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

برهة من الزمن ما أثقلها على النفس وأشقها على الناس، ويشير من إشارته حكم، وطاعته غنم، حكم المعركة رافائيل إلى نهاية الواقعة، وصار لسان حال الكنديين: "سأنقلب إليكم يا أهل بلدي على الأثر، متأهبا للسفر، من الفجر إلى السحر، فقد ساقتنا نحو المنايا المقادر[3]، وضمتنا إلى زمرة الخاسرين الحفائر"، وتولوا يغادرون تباعا ويأسفون جمعا:

ما لم أذق نظيره في العمر  **  تجرعته في اليوم بعد العصر

فطارت الفرحة وعمت البقاع، وامتلأت بخبر انتصار المغرب الأعين والأسماع، ورددت الألسن والحناجر "من غلب سلب، ومن عز بز.. عاش المغرب عاش". وسمعت الفرقة الفائزة من التشجيع والإكبار، ما فتق السمع ووصل القلب وتغلغل في الصدور وتحبر غداة المقابلة في السطور على الصحائف والجرائد وصفحات الإخباريين الكبار، وما زالت فرحتهم باجتيازهم ذاك تتوارثها الأخبار، ويمتد بها الليل والنهار.

وقف ابن صالح قبالة الجزيرة الفينيقية ناظرا إلى الأفق ذي اللون الرصاصي محدثا نفسه: هذه باكورة الحظوظ، وهؤلاء أحدوثة الجدود، لعل هذه الانتصارات تبقى وتروى، ويكون في ذلك للمغاربة حسن الذكرى.

 

مصادر ومراجع:

  • أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحي: "مقامات بديع الزمان الهمذاني"، منشورات محمد علي بيضون، مطبعة دار الكتب العربية، بيروت، الطبعة الثالثة 2005.
  • الحريري، قاسم بن علي: "مقامات الحريري"، دار الباز للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، مطبوعات دار بيروت، طبعة 1978
  • التوحيدي، أبو حيان: "الإمتاع والمؤانسة"، دار الكتاب العربي، بيروت، طبعة 2005
  • بن أبي طالب، علي: "نهج البلاغة"، جمع وترتيب وتقديم السيد الشريف الرضي، مراجعة وتدقيق إبراهيم زهوة، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، طبعة 2010.
  • اليازجي، ناصيف: "مجمع البحرين"، مطبوعات دار صادر، بيروت، لبنان، بدون تاريخ الطبع.
إعلان

 

انظر أيضا

  • [1] بن أبي طالب، علي: "نهج البلاغة"، جمع وترتيب وتقديم السيد الشريف الرضي، مراجعة وتدقيق إبراهيم زهوة، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، طبعة 2010، ص: 58.
  • [2] التوحيدي، أبو حيان: "الإمتاع والمؤانسة"، دار الكتاب العربي، بيروت، طبعة 2005، ص: 25.
  • [3] أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحي: "مقامات بديع الزمان الهمذاني"، منشورات محمد علي بيضون، مطبعة دار الكتب العربية، بيروت، الطبعة الثالثة 2005.

 

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان