شعار قسم مدونات

الهويات المركبة في مونديال قطر

FIFA World Cup Qatar 2022 - Semi Final - France v Morocco
جانب من الجماهير المغربية التي تابعت مباراة المغرب وفرنسا (رويترز)

لم يكن مونديال قطر كسابقيه على جميع الأصعدة، من حيث التنظيم المبهر والتقنيات المتبعة والجماهير الغفيرة التي عبّرت صراحةً عن مدى فرحتها، وكسر النمطية الفكرية الغربية السائدة تجاه العالم العربي كمنظومة أخلاقية وعاداتٍ وتقاليد وثقافة وإرثٍ حضاري.

ولكن هناك جوانب تحتاج إلى تعمق ودراسة أكثر، مثل التثاقف والنظرة النمطية الغربية تجاه الشرق التي أسسها الاستشراق بكافة مدارسه، الفرنسية والإنجليزية والألمانية وغيرها، فإن المونديال لا يقتصر على كونه حدثا رياضيا حصرًا بقدر أنه ساحة صغيرة ولكنها عالمية تبرز صراع الحضارات والثقافات والهويات والتي لها آثارٌ في السياسة والاقتصاد وغيرهما.

ولكن اللافت هو المباراة التي حصلت بين فرنسا والمغرب، لا شك أن المباراة كانت في غاية الروعة والإبداع من قبل الفريق المغربي الذي أصبح أسطورة في عيون كل العالم، ولكني لست هنا كي أتكلم عن الجانب الرياضي، اللافت أن الجماهير الفرنسية من الأصول المغربية كانت تؤيد الفريق المغربي، مما طرح علامات استفهام عن هذه الظاهرة وحتى رواد مواقع التواصل الاجتماعي كانوا يقولون لماذا أنتم في فرنسا حيث تأكلون وتشربون وتعيشون حياة كريمة إذا كنتم في الاستحقاقات الكبرى تقفون مع أصولكم التي هاجرتم منها؟ للحقيقة مشهد يحتاج إلى تشريحٍ وتفصيلٍ كي نفسر هذه الظاهرة.

في كتابه الشهير "الهويات القاتلة"، قال المفكر اللبناني أمين معلوف: "منذ أن غادرت لبنان عام 1975 للاستقرار في فرنسا، فكم من مرة سألني البعض عن طيب نيَّة إن كنت أشعر بنفسي "فرنسيًّا" أم "لبنانيًّا". وكنت أجيب سائلي على الدوام: "هذا وذاك!"، لا حرصًا مني على التوازن والعدل بل لأنني سأكون كاذبًا لو قلت غير ذلك. فما يحدّد كياني، وليس كيان شخص آخر، هو أنني أقف على مفترقٍ بين بلدين، ولغتين أو 3 لغات، ومجموعة من التقاليد الثقافية. وهذا بالضبط ما يحدّد هويتي. فهل أكون أكثر أصالة لو استأصلت جزءًا من كياني؟

لا يمكن لأي إنسان أن يلغي هوياته الفرعية

ولكن يجب أن يقسمها إلى أفقية وعمودية

لم يقتصر الجدل على المواقع عن هذه الحادثة فقط، فإن هذه المعارك والنقاشات المحتدمة وصلت إلى هوية لاعبي الفريق المغربي، هل هم عرب أو أمازيغ أو غيره من هويات؟ وهذه تؤكد مدى ارتباط المونديال أو الحدث الرياضي بالأمور الحضارية المتعلقة بالهويات والثقافة والتثاقف الأممي، ولكن هناك حقيقة واحدة مفادها أنه ليس هناك هوية خالصة ونقية غير مختلطة.

فعلى سبيل المثال، نحن ندرك أن المغرب العربي كان منطقة نفوذ رومانية ثم جاءت الفتوحات الإسلامية ثم جاء الاستعمار الأوروبي، هذا المثال يعطينا نظرة بسيطة عن عملية تخالط الهويات وتركيبها وتعقيدها وهي عملية تعرضت لها كل بقعةٍ جغرافيةٍ في هذا العالم، ولكن القضية لا تقف عند حدود الهويات الجماعية إنما تأتي عملية التفاعل الفردي والتاريخي في طرح الأولويات في تقديم وتأخير الهويات، بمعنى آخر أن كل فردٍ منّا لديه هوياتٍ متعددة ومركبة، فنحن عبارة عن هوياتٍ مركبة وهنا يكون التحدي في كيفية فكها وحلّها.

على سبيل المثال يستطيع الإنسان أن يكون فرنسيا مغربيا مسلما سنيا أمازيغيا، في هذا المثال، هذا الإنسان هو مركب الهوية ويتكوّن من عدة هوياتٍ مختلفة ومشتركة في آنٍ واحد، ومن هنا نستطيع أن نحلل ونفهم الذي قاله أمين معلوف في كتابه، -لا يمكن لأي إنسان أن يلغي هوياته الفرعية ولكن يجب أن يقسمها إلى أفقية وعمودية-.

الأفقية

وهي الهويات المتعادلة والمتساوية وهي ليست ذات أهمية بنيوية في حياة الإنسان ويمكن التغافل عنها وأثرها بسيط في تكوين شخصية الإنسان، أما العمودية وهي التي تعبر عن الشخصية الإنسانية الخالصة والتي تسوف تكون جسر التواصل مع الآخرين من حيث التعبير اللغوي والأدبي والانتماء الثقافي والديني والوطني.

فهذا الترتيب العمودي هو خطوة معقدة ولكنها ضرورية وحتمية حيث تعود إلى طبيعة الإنسان البشرية والموروث الذي كان جزءا من النظام المعرفي، فإن المشهد الذي رأيناه في المباراة يؤكد هذه النظرية، ولكن لا شك أنها تختلف من إنسانٍ إلى إنسانٍ آخر، فإن الذين شجعوا المغرب رغم كونهم فرنسيين قدموا الهوية المغربية على الهوية الفرنسية لعدة فرضياتٍ، كما أنها متعلقة بالتفاعل الإنساني والتاريخي وسلم القيم والأولويات عند الفرد والمجتمع أيضًا، ولذا فإن المشهد غير غريب.

وهناك أمثلة أخرى على المستوى الفردي النخبوي والثقافي، على سبيل المثال الدكتور وائل حلاق، دكتور في الإنسانيات في الولايات المتحدة الأميركية صاحب كتاب "الدولة المستحيلة" و"قصور الاستشراق" وغيرهما من الكتب، فهو فلسطيني مسيحي، ولكنه من أشد منتقدي الحضارة الغربية وحداثتها، فهو غربي المسكن والعمل ولكنه لا يعتبر نفسه غربي الهوية والتفكير.

مثال آخر إدوارد سعيد، صاحب كتاب "الاستشراق" الشهير، كان يعمل في الولايات المتحدة الأميركية وهو فلسطيني مسيحي ليبرالي علماني، كتابه يعبر عن نظرته للاستعمار الغربي، فهو يعطي النموذج الأمثل للهويات المركبة، حتى أمين معلوف الذي أعطى الوسطية كنموذج في تفاعل الهويات. فهو جزء من الحضارة الغربية الليبرالية ولقد كانت مقولته شبيهة بمقولة فوكوياما على نهاية التاريخ والسيطرة الكاملة للحضارة الغربية المسيحية، ولكنه أيضًا من خلال هويته العربية عبّر بإيجابية عن المسلمين وعن عدم مسؤوليتهم عن أحداث العالم الحالية.

إن فهم الهويات المركبة بتعقيداتها وتركيبتها الهجينة بعض الأحيان هو بداية الحل لمشاكلنا البنيوية المجتمعية والصراعات السياسية في العالم العربي خصوصًا، وذلك بعد أن شوهها الاستعمار باسم الانتداب ولكن ذلك يحتاج إلى ترتيبها عموديا وأفقيا وتقسيمها بشكلٍ علمي واستيعابها، وهذه تحتاج إلى فترة زمنية لتعزز من الوعي الفردي والمجتمعي معًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.