شعار قسم مدونات

عصر التنوير.. إسحاق نيوتن العالم الموحّد (11)

نيوتن.. سقطت تفاحة فهل يسقط القمر؟ الوثائقية
نيوتن من أكثر الشخصيات العلمية شهرة حتى يومنا هذا (الجزيرة)

نتناول في هذا المقال، الشخصية الثالثة التي أكملت مثلث أبرز رواد فلاسفة التيار العلمي التجريبي في أوروبا في القرن الأول من عصر التنوير إلى جانب فرانسيس بيكون وجون لوك، وتتمثل بالعالم الشهير إسحاق نيوتن، مكتشف الجاذبية، وصاحب البحوث العلمية العديدة في الفيزياء والفلك والرياضيات والبصريات. ولكننا سنسلط الضوء على جوانب أخرى في شخصيته، تجهلها -لسبب أو لآخر- الغالبية العظمى ممن قرؤوا أو سمعوا عنه، لنكتشف نيوتن العالم والفيلسوف المؤمن الموحّد، الذي وجد أن العلم طريق لاكتشاف الخالق المهيمن المتحكم في قوانين الطبيعة، نيوتن الذي عمل على تصحيح الإيمان بالرب، وإنكار عقيدة التثليث المسيحية التي لا تتناسب مع طبيعة الخالق. وعلى غرار بيكون ولوك، اعتبر نيوتن الإيمان بالخالق مكمّلا لدور العلم والعقل، وأن توسيع الفلسفة الأخلاقية يتم بمجرد اتباع الفلسفة الطبيعية، في أقصى مدى لها، من أجل النهوض بها، إلى درجة كبيرة من الكمال، لتكون الميزة الرئيسية التي تجنيها البشرية والمجتمع البشري منها.

رفض نيوتن فكرة أن الكون يعمل من تلقاء نفسه على مدار الساعة، وشدد على وجود العناية الإلهية للكون بشكل دائم لإبقاء الطبيعة في مسارها.

يعتبر الفيلسوف البريطاني إسحاق نيوتن (1642-1727)، واحدا من أكثر الشخصيات العلمية شهرة حتى يومنا هذا، إلى جانب أينشتاين، وداروين، بسبب ما أسهم به من إضافات واكتشافات في علوم الفيزياء والرياضيات والبصريات، وفي ترسيخ المنهجية العلمية الحديثة. وقد تولى رئاسة الجمعية الملكية، وكان عضوا في البرلمان الإنجليزي، ومديرا لدار صك العملة الملكية. ويعتبر كتابه "الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية" من أعظم ما وضع في العلوم الطبيعية، والذي وضع فيه قوانين الحركة الميكانيكية، وكان له دور كبير في انطلاق الثورة الصناعية في القرن الـ19.

إعلان

واعتقد نيوتن بوجود إله واحد للكون، وكان يرى أن عبادة المسيح كإله تعتبر خطيئة كبرى كعبادة الأصنام. وقد أثار ذلك عليه الكنيسة من جهة، والعلماء الذين يرفضون إدخال الدين في العلم، ولا يعترفون إلا بنتائج التجارب العلمية المثبتة، مما اضطره إلى إخفاء معتقداته الدينية وعدم التحدث عنها في المجالس العامة.

سر الجاذبية

وفي سياق حديثنا عن الأخلاق كعلم وفلسفة وسلوك عند الغرب، وما تعرضت له من تقلبات وتحولات بفعل الظروف والسياقات السياسية والدينية العنيفة التي سادت أوروبا في العصور الوسطى، والتي أنتجت عصري النهضة والتنوير كردة فعل طبيعية، وفي سياق حديثنا عن فلاسفة المذهب العلمي التجريبي في عصر التنوير، الذي كان يشهد صراعا حادا بين المتعصبين للكنيسة والمذهب الكاثوليكي، وبين المطالبين بالإصلاح الديني، وفصل الدين عن الدولة، بل وصل الحد إلى ظهور النزعات الإلحادية المبكرة التي ترفض الدين جملة وتفصيلا؛ وفي هذا السياق نجد أنفسنا أمام شخصية علمية فذة، بلغت سمعتها الآفاق، وقدمت العديد من الاكتشافات والبحوث العلمية المدهشة في عصرها، وستبقى مرجعا للأجيال إلى قرون عديدة قادمة، ألا وهي شخصية العالم والفيلسوف إسحاق نيوتن.

ولم يكن نيوتن عالما فيزيائيا ورياضيا وفلكيا وفيلسوفا طبيعيا (متخصصا في علوم الطبيعة والكون والفضاء) فحسب، بل كان فيلسوفا لاهوتيا (دينيا) متعمقا، درس الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، ودرس تاريخ الفلسفة بكل مراحله. وقد زاد من اهتمامه بهذه الدراسة؛ حاجته إلى الوصول لإجابات شافية للأسئلة التي تفرضها بحوثه العلمية، فقد درس حركة الكواكب، وتكلم عن النظام الشمسي، ومركزية الشمس في هذا النظام، وعلاقة الجاذبية في حركة الكواكب والنظام الشمسي، وخلص إلى أن الجاذبية تفسر انتظام حركة الكواكب، لكنها لا تفسر من الذي جعلها تتحرك، ليقرر في ضوء ذلك أن الجاذبية هي من عند خالق الكون الذي يحكم كل شيء، ويعرف كل شيء، ووضع نظاما لكل شيء، وأن هذا يدل على وجود تصميم في نظام الكون، وأن العناية الإلهية ضرورية لسلامة هذا النظام والمحافظة عليه.

إعلان

ولذا يعتقد أنه يجب أن يكون سببَ الجاذبية مصدرٌ ما يجعلها تعمل باستمرار وفقا لقوانين معينة؛ سواء كانت مادية أو غير مادية. تاركا المجال لطلابه ليبحثوا في هذه القوانين.

يعتقد نيوتن أن الفلسفة الطبيعية، تقودنا إلى معرفة ماهية السبب الأول (خالق الكون)، وماهية القوة التي يتفوّق بها علينا، والفوائد التي نحصل عليها منه، وحينها سيظهر لنا واجبنا تجاهه، وكذلك تجاه بعضنا البعض.

"عظمة الخالق من عظمة الخلق"

كان نيوتن يرى أن الرب خالق عظيم، لا يمكن إنكار وجوده مع كل هذه العظمة في الخلق، لأن ذلك يقود إلى الإلحاد، في حين أن الخالق الأعلى لا يمكن إنكار وجوده بسبب عظمة الخلق، وهذا الخالق واحد، وهو نفس الإله دائما وفي كل مكان، إنه موجود في كل مكان. ويرى نيوتن أنه مثلما توجد الأجسام في مكان ما، فإن الخالق غير محدود، موجود في كل الكون طيلة الوقت.

ومن وجهة نظر نيوتن، فإن مواقع الكواكب بالنسبة لبعضها البعض -وخاصة بالنسبة للشمس- تشير إلى أن مجرد الصدفة، أو التفاعلات الفيزيائية العادية للأجسام الكوكبية، لا يمكن أن تضع كل كوكب في المدار الصحيح تماما للحفاظ على نظام شمسي مثل نظامنا لفترة طويلة من الزمن. ومن خلال هذه الحجة، يبدو أن نيوتن يشير إلى أن الصدفة فقط كان من شأنها أن تنتج نظاما كوكبيا غير مستقر، حيث تكون الكواكب في النهاية إما تنجذب بشدة إلى الشمس، أو تسقط فيها، أو تنجذب بشكل ضعيف للغاية، وتطير في الفضاء.

وكان نيوتن صديقا لجون لوك، وقد تأثرا ببعضهما فيما يتعلق بالدين والفلسفة واللاهوت، وكان كل منهما يشكك في عقيدة التثليث الإنجيلية والكاثوليكية، معتبرين أن "يسوع" (عيسى عليه السلام) لم يكن شخصية إلهية على نفس مستوى الله الخالق.

وقد كتب نيوتن رسالة طويلة جدا بعنوان "تحريفان ملحوظان في الكتاب المقدس" قدم فيها الدليل على وجهة نظره بأن النسخة الأصلية للمسيحية قد تعرضت للتلف في بداية القرن الرابع الميلادي، حيث تم إدخال عقيدة التثليث عليها.

وكان نيوتن مسيحيا متدينا، ولكنه رفض الإيمان بتعاليم الكنيسة الإنجيلية والكاثوليكية التي تدين بعقيدة تثليث الإله، وانتقد التحريفات الموجودة في الإنجيل، الذي درسه دراسة متعمقة بحثا عن الرسائل المخفية المتضمنة فيه، حيث كان يعتقد أن الإنجيل لا بد أنه يحتوي على حكمة مقدسة مخفية وفق شفرة معقدة إذا تم حلها سنتمكن من فهم كيفية عمل الطبيعة.

إعلان

النتائج الأخلاقية والدينية للعلم

لم يكن نيوتن مجرد خبير كيميائي ممارس، ولكنه كرس وقتا وطاقة أكبر لدراسة اللاهوت والنبوة أكثر من الفلسفة الطبيعية. وتُظهِر كتاباته العامة والخاصة أنه رفض فكرة أن الكون يعمل من تلقاء نفسه على مدار الساعة، مشددا على وجود العناية الإلهية للكون بشكل دائم لإبقاء الطبيعة في مسارها.

وكان نيوتن لا يرى وجود حواجز بين الفلسفة والفيزياء والإيمان، لأنه يعتقد أن الإله "كتب" كلا من كتاب الطبيعة والكتاب المقدس، فالحقيقة تأتي في النهاية من نفس المصدر الإلهي.

وفي خاتمة الطبعة الثالثة من كتابه "البصريات" سلّط نيوتن الضوء على النتائج الأخلاقية والدينية لدراسة الطبيعة، حيث يوضح أن الفلسفة الطبيعية في جميع أجزائها، تقودنا إلى معرفة ماهية السبب الأول (خالق الكون)، وماهية القوة التي يتفوّق بها علينا، والفوائد التي نحصل عليها منه، وحينها سيظهر لنا واجبنا تجاهه، وكذلك تجاه بعضنا البعض.

وقد أثارت هذه الخاتمة نقاشا واسعا بين العلماء والفلاسفة، حول الأسباب التي دفعت نيوتن إلى أن يضع هذه الخاتمة في الطبعة الثالثة عام 1718 م، دونا عن الطبعتين الأولى والثانية، وكان ذلك في العقد الأخير من حياته.

والغريب في الأمر أن هذه الجوانب في شخصية العالم والفيلسوف الإنجليزي إسحاق نيوتن لا يعرفها إلا نفر قليل من الباحثين والدارسين المتخصصين، حتى إنني عندما بحثت في الموسوعة البريطانية، لم أجد شيئا من هذه الجوانب، وكان التركيز فقط على حياته ومؤلفاته وأبحاثه وتأثيره، ولا أجد تفسيرا لذلك إلا إمعانا في طمس هذه الجوانب عن العامة، وإضافة إلى تحييد الدين عن العلم، كما تم تحييده عن سائر مجالات الحياة الأخرى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان