أخيرا، وصلت بطولة كرة القدم 2022 إلى منتهاها، بعد أيام زاخرة بالتنافس، صاخبة بأصداء المونديال الكروي، وما هي إلا ساعات الآن وتسدل الستارة على آخر أماسي البطولة الأشهر لدى الجماهير في أصقاع العالم، فتعود منتخبات إلى بلدانها حاملة بيارق التقدم وما كسبته في حصاد البطولة، وتنظر بلدان أخرى في صفحات ما أحرزته فِرقها، بعدما أكمل الجميع ما يتعلق بمساراتهم في ليالي وأيام الدوحة التي جمعتهم وتبقى أوقات ذكرياتها خالدة بنفوسهم، وكأن لهم سلوة في قول القديم بعد تحوير في الموقع الجغرافي:
وكانت فـي "الخليج" لـنا ليال .. سرقناهن من ريب الزمان
جعلناهن تاريخ الليـالـــــي .. وعنوان المسـرة والأمـاني
وبعدما خلبت الدوحة قلوبهم، يتواصل مقال الفرد منهم تعبيرا عنها:
ولو أني خبأتك في جفوني .. إلى يوم القيامة مـــا كفـاني
قليل في وداعك ألـف عـام .. وألـف بعد ذاك وحِجـتــــان
ولو نُعْطى الخيار لما افترقنا .. ولـكـن لا خيار مـع الزمـان
تؤوب الحشود القادمة من بلدان العالم المختلفة، بعدما توطّدت الألفة بينهم وبين معالم الدوحة، ذاك ملعب البيت وفي الوجدان ساعات مبارياته، وهذا ملعب مباراة الاختتام "لوسيل" وصورته الخالدة، وتلك ربوع الدوحة التي ينتظم في سلكها ما يتعلق بمشاهد السوق التقليدي "سوق الواقف" المعلم التراثي البارز في العاصمة (الدوحة)، وإن ينس البعض منهم لا ينس عشيات الحي الثقافي "كتارا" وصروحه الممرَّدة، وتظل بذهنه زرقة مياه الخليج المتشح للهدوء، تحاوره الأضواء المترقرقة من علياء أبراج الدفنة.
يودعونها بنظرات ممزوجة بالمشاعر والأفكار المتعددة، وقد يصل ببعضهم الحال إلى أن يكون كما في البيت الشعري:
وآلت بنا الأحوال آخر لحظة .. إلى كلمات ما لهن حروف
وتؤوب جموع لم تكن تدري الكثير عن ساكنة أرض العرب وبلاد هذه الحضارة، وقد انطبعت في أذهانهم الصور والمَشاهد التي تنقل لهم مختصرات يومية تعريفية عن ساكنة هذا الحيز من الجغرافيا، فرأوا ما يلهمهم، وللإلهام عموما كانت هذه البطولة من كأس العالم، والقصص المشتهرة في عدد من الجوانب تعبير عن ذلك، فذاك شاب يأتي على قدميه يذرع الأرض ملتحفا سماءها شغوفا بالوصول لحضور المونديال بطريقة فريدة، وذاك عصامي في جانب آخر آلى على نفسه أن يتماهى مع أجواء البطولة فطرِب لها وحدا بحنجرته لمستخدمي "المترو" مرشدا إلى الطريق فغدا قصة مشتهرة، وتتنوع القصص المعبرة عن مونديال ناعم هانئ تم على رمال شكلت منذ القدم فكرة الخيمة المستقطبة للقادمين من الجهات المختلفة، فلا تزال تسميات مهرجانات العرب القديمة (عكاظ، ذي المجاز،..) أيقونات في هذا الباب، وتأثّل الأمر كامل التأثل بعدما انطلق إشعاع الإسلام بدعوته الموجهة للعالمين.
وها هي البلاد العربية اليوم ممثلة في دولة قطر، تستقبل أمم العالم في بطولة كأس العالم، في لحظة ظل فيها هذا الحيز من الجغرافيا نقطة رئيسة في أنظار متابعي الرياضة طوال المونديال الذي أسبغ الترحاب العربي على الجموع بعد منح تأشيرة العبور إلى الدولة لحضور بطولة كأس العالم لكرة القدم اسم "هيا" الدال على الحفاوة والتهيؤ للاستقبال وحرارة الترحيب.
ومما يتصل بهذه الروح وهذا التفاعل ما حدث من مزامنة اختتام كأس العالم مع اليوم الوطني لدولة قطر، لتعيش قطر أجواء احتفالها بعيدها الوطني ضمن الخيمة العالمية التي رفعت قطر لها أطناب هذا الملتقى الرياضي العالمي المقام على أرضها، حيث حملت قطر هذا الهم ونظمت البطولة العالمية.
نعم، ها هي كأس العالم مُزنة قد همّت بالإقلاع، وها هي لحظة الاختتام قد حانت وما زالت البصمة القطرية والأبعاد الرمزية التي طبعت بها قطر هذه النسخة من بطولة كأس العالم متواصلة، تعبيرا عن الخبرة الإعلامية والأفكار الرسالية، وفي تزامن نهاية كأس العالم مع الاحتفال اليوم الوطني براعة اختتام في طياتها أن قطر رابحة للكأس حتى بغياب فريقها، فيوم التتويج يوم تتويج الجهد القطري الخاص بهذه الفعالية الأولى من نوعها على الأرض العربية والشرق الأوسط.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.