شعار قسم مدونات

لوسيل.. سؤال الاستثناء

تقع فعالية الليالي العربية بمدينة لوسيل قريبة من الملعب المونديالي (الجزيرة)
جانب من فعاليات مدينة لوسيل قرب ملعب لوسيل المونديالي (الجزيرة)

لوسيل تختصر حكاية الاستثناء، حيث حكاية 144 عاما متصلة من الاستثناء، الذي يستحق مساءلته لكشف سره، وإن كان التعرف على معالمه يسمح لنا بالحصول على ملامح إجابة للسؤال.

فلوسيل تختصر حكاية النموذج القطري، وخصوصيته، وبروزه كرقم في المعادلة على الأصعدة كافة، ففي لوسيل قبر المؤسس، وفيها اليوم يقوم ملعب ومدينة يعكسان الحداثة في اتصالها بماضيها، واستنادها عليه، وتفاعلها مع حاضرها بكفاءة، ونظرها للمستقبل بتبصر وروية.

لوسيل تختصر حكاية كتارا بطليموس، وقطرايا المخطوطات السريانية، وقطر سوق العرب التي زودتهم بالنجائب، ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم بروده، والزبارة والدوحة ولوسيل والخور وفويرط والغارية اللاتي غدت محطات للتجارة، ومنازل للعلم، حتى التف أهاليها حول المؤسس الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني رحمه الله، الذي جمع من الخصال الدينية والسياسة الدنيوية ما أهله للوصول لثقتهم، والمضي بهم قدما.

ثوى المؤسس في لوسيل تاركا سياسة واضحة المعالم، وموقعا لقطر متزنا بين قوى عظمى، وحالا من الأمن والسلم والازدهار سار عليه من خلفه في الإمارة

ثم ثوى المؤسس في لوسيل تاركا سياسة واضحة المعالم، وموقعا لقطر متزنا بين قوى عظمى، وحالا من الأمن، والسلم والازدهار، سار عليه من خلفه في الإمارة، ومع التغيرات المختلفة بقيت الأسس واضحة، ومساحة التحولات معلومة، والتبصر للمستقبل ماثلا، فلا زيغ ولا ميلان.

والمونديال اليوم غدا برهانا على هذا النموذج، وجمعه بين الثبات والمرونة والأصالة والمعاصرة والبحث عن أعدل الطريق، فالمونديال اليوم ليس لعبا للكرة في الميدان، بل مجموعا من السياسة والاقتصاد والرياضة، وفوق ذلك الثقافة وتحديدا نوافذ الروح المشرعة للنور.

ليأتي النهائي في يوم قطر الوطني عنوانا لتتويج الاستثناء، وأين؟ في لوسيل حيث رمزية التأسيس، ورمز التميز في الملعب، وما يحيطه من شؤون وحكايا.

المونديال كان قصة استثناء متصل، فالتحدي كان كبيرا، مناسبة ضخمة، ودولة نظمت مناسبات عديدة، لكن المنافسة حادة، وفازت قطر، لتكسب الرهان عند التنفيذ كما كسبت التنظيم

المونديال كان قصة استثناء متصل، فالتحدي كان كبيرا، مناسبة ضخمة، ودولة نظمت مناسبات عديدة، لكن المنافسة حادة، وفازت قطر، لتكسب الرهان عند التنفيذ كما كسبت التنظيم، فقدمت نموذجا لمونديال آمن قيمي وأخلاقي ومثير رياضيا.

أقر الجميع بالاستثنائية، إنفانتينو اعترف بهذا، والنساء القادمات للشرق حيث يفترض أن المرأة مقهورة، اعترفن بأنهن شعرن بأمان غير مسبوق، ومع غياب الكحول، اعترفن أيضا بأنهن يشعرن بالطمأنينة نحو أطفالهن، وأكد الشباب سعادتهم باختفاء المشاجرات، فحتى الجمهور المعروف بشغبه، بدا استثنائيا في هدوئه.

استعادت القيم العائلية حضورها، فعناق اللاعبين المغاربة مع أمهاتهم، ذكر الجميع بالفطرة السوية، وقيمة الأسرة، وذكرهم بأن ثمة ما هو أعمق من الحرية البراقة، فملامسة الأسقف النهائية بحجة الحرية، جعل الأبصار تنقلب خاسئة وهي حسيرة، إذ ليس في الفطرة من فطور، لكن في عقل الإنسان وهواه ما يجعل السماء تمور.

كان مونديال 2022 خلاصة النموذج القطري، وحيويته، كاشفا استثنائيته، وتميزه، أن تتحول العواصف لرياح مواتية، وتتحول التحديات لفرص، هذا إنجاز يقارب الإعجاز

أما سجود لاعبي أسود الأطلس، فقد جعل شموس الروح تبزغ بعد مغربها، في كثير من النفوس، وسمح مشهد المصلين المتجمعين هنا، وهناك بتساؤلات كثيرة، قال لي مشجع إيطالي: أنتم مرتبطون بالله أكثر منا، لقد رأيت الشرطي يبسط سجادته ويقف مصليا، ثم يعود لمواصلة عمله، قالت أخرى: جئت وأنا متوجسة، لكنني سأعود لهذه البلاد، وآخر قدم من نصف الكرة الجنوبي الغربي: سأواصل القراءة عن ثقافتكم، وآخر قال في مسجد: لا أجد كلمات تعبر عن شعوري.

هذه الأسئلة، وغيرها الكثير، طرحت في مواقف مختلفة، وكانت بوابات السماء لهم مشرعة عبر فعاليات متنوعة سمحت للجمهور بالحصول على الإجابات التي تمس شغاف القلوب، ومسام الروح، وتترك بذور الخير ومشاعل الحوار موقدة.

وحدتنا مصدر قوتنا..

كان مونديال 2022 خلاصة النموذج القطري وحيويته، كاشفا استثنائيته وتميزه، أن تتحول العواصف لرياح مواتية، وتتحول التحديات لفرص، هذا إنجاز يقارب الإعجاز، واطراد التطور على أسس من الانضباط القيمي والأخلاقي، ومقاومة الإغراءات المحفزة على المخالفة، والتوازن في الطرح، والانضباط فيه، هو ما منح التميز لهذا النموذج، فالانكسار والمجاراة لا تجر الاحترام، بل الازدراء، فالطرف الآخر لن يحترم من يجاريه بل سيراه تابعا خاضعا، لكن من سيقاوم بتهذيب، ويحاور، ويمتلك منطق الإقناع، فهو الرابح في الرهان.

قطر استثناء، نجحت كنخلة في قلب الصحراء، وسفينة تمخر عباب البحر، في مواجهة عواصف مختلفة، لكن حكمة الربان، ورسوخ الجذور، ووضوح الرؤية، وسلامة الوجهة، وتعاضد الأيدي، وتكاتف القلوب، والتوفيق الإلهي من وراء كل ذلك، إجابة مجزئة على سؤال الاستثناء.

فوحدتنا مصدر قوتنا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.