وأنت تتابع افتتاح كأس العالم قطر 2022 المبهر، تشعر بفخر وتقدير كبيرين لما قامت به هذه الدولة الخليجية الصغيرة جغرافيا المؤثرة عالميا على أكثر من صعيد. فكيف جاء هذا النجاح المبهر؟
لأول مرة، قرآن يُتلى وعربية ترتقي إلى العلا، ومعانٍ أصيلة ورسائل قوية للعالم الآخر، مفادها أن الدول العربية قادرة -مثل باقي الاقتصادات المتقدمة- على ربح الرهان وتنظيم الأحداث الرياضية الكبرى
ضربة البداية
لقد قطعتْ لحظة الافتتاح بملعب البيت في مدينة الخور دابر الانتقادات والتشويش والابتزاز، وأسكتت أفواه المشككين والمُنغصين، وأعطت صفارة الحكم في مباراة قطر والإكوادور إشارة انطلاق، ليس لمجريات المباراة فقط بل لعرس رياضي عالمي، لكنه هذه المرة ممزوج بالثقافة العربية والإسلامية والخليجية.
ولأول مرة، قرآن يُتلى وعربية ترتقي إلى العلا، ومعانٍ أصيلة ورسائل قوية للعالم الآخر، مفادها أن الدول العربية قادرة -مثل باقي الاقتصادات المتقدمة- على ربح الرهان وتنظيم الأحداث الرياضية الكبرى بدون مركبات نقص ولا ذرة إخفاق، بل هو التخطيط المحكم والتنفيذ الدقيق والإنجاز السريع والمتقن.
من هنا انطلق النجاح
قبل 12 سنة من لحظة الافتتاح، قدّمت قطر (اقتصاد بقيمة 181 مليار دولار) ملفا تقنيا متكاملا ولافتا في سباق الفوز بشرف احتضان المونديال، واستطاعت أن تتفوق على عمالقة العالم: الولايات المتحدة الأميركية (23 تريليون دولار)، واليابان (4.9 تريليونات دولار)، وكوريا الجنوبية (1.8 تريليون دولار)، وأستراليا (1.5 تريليون دولار).
ولم تكن هذه الفروق الكبيرة لتقف حائلا أمام فوزها بشرف الاحتضان، فأخذت على عاتقها مسؤولية تمثيل الأمة العربية والإسلامية أحسن تمثيل في هذه اللحظة الفارقة.
وانطلقت منذ ذلك الحين، وجعلت من مناسبة المونديال لحظة لتنفيذ مشاريع ضخمة بلغت قيمتها في المتوسط 220 مليار دولار، منها 7 إلى 9 مليارات دولار خُصصت لبناء 7 ملاعب مونديالية جديدة، وإعادة توسعة ملعب آخر، وليس كما روجت مجموعة من الأصوات.
أصبحت لدى قطر بنية تحتية قوية (شبكة مترو متكاملة، وطرق ضخمة، وميناء عالمي) تمثل مؤشرا على قدرة هذا البلد على جذب الاستثمارات الأجنبية
وضع مالي مريح وعمالقة بالدوحة
وبعد 12 سنة، أصبح لدى قطر واحد من بين أرقى المطارات في العالم، وقد فاز بجائزة أفضل مطار للمرة الثانية على التوالي، كما افتَتحت قبل أيام الشطر الثاني منه، وارتفعت بذلك سعة هذا المطار إلى قرابة 58 مليون مسافر، فضلا عن شركة طيران عالمية (الخطوط الجوية القطرية).
وأصبحت لدى قطر بنية تحتية قوية (شبكة مترو متكاملة، وطرق ضخمة، وميناء عالمي) تمثل مؤشرا على قدرة هذا البلد على جذب الاستثمارات الأجنبية، ليس في قطاع الغاز والنفط فحسب بل في القطاع المالي والتجاري والرياضي أيضا، في وقت أشارت فيه التوقعات إلى أن الاستثمارات الرياضية في البلد سترتفع إلى 20 مليار دولار بحلول عام 2023.
كل هذه المشاريع تم إنجازها قبل الوقت المطلوب، استيفاء لاشتراطات الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، كما تم إنجازها رغم العديد من الإكراهات، بدءا بالأزمة الخليجية وأزمة كورونا اللتين أثرتا على سلاسل التوريد، وليس انتهاء بحملة التشويش الواسعة أوروبيا وعالميا.
ولأجل أن تنجح قطر في استضافة المونديال، كانت تنفق نصف مليار دولار أسبوعيا، تسعفها في ذلك احتياطاتها المالية الضخمة (59 مليار دولار)، وحجم صندوقها السيادي الذي يربو على 461 مليار دولار، وتصنيفها الائتماني القوي الذي يمنحها قدرة كبيرة على ولوج أسواق الدين العالمية بأريحية للحصول على تمويلات بشروط ميسرة.
تشير الأرقام الرسمية إلى أن قطر ستجني عوائد مالية استثنائية تصل إلى 17 مليار دولار خلال فترة المونديال
ماذا ستجني قطر؟
الآن وقد أصبح المونديال واقعا، ربحت قطر الرهان، وتحولت إلى قبلة للجماهير العالمية، سواء على الأرض (1.2 مليون زائر) أو عبر الشاشات (توقعات بأكثر من 4 مليارات متابع)، وهذا سيتيح لهذا البلد فرصة نادرة للترويج لعلامته الرياضية والتجارية والسياحية على حد سواء، بعدما نجح في تصدّر صنّاع الغاز المسال في العالم.
وفي أرض الدوحة سيلعب عمالقة كرة القدم وملوك مواقع التواصل الاجتماعي: رونالدو (730 مليون متابع)، وليونيل ميسي (464 مليون متابع)، ونيمار (324 مليون متابع)، ومبابي (97 مليون متابع)، وهي أرقام ضخمة ستفيد قطر لا محالة في الترويج لصورتها ونجاحاتها.
كما تشير الأرقام الرسمية إلى أن قطر ستجني عوائد مالية استثنائية تصل إلى 17 مليار دولار خلال فترة المونديال، لكن الرهان سيكون على المدى البعيد لتعزيز هذه العوائد خاصة على مستوى قطاع السياحة، حيث تتوقع البلاد جذب أكثر من 6 ملايين سائح بحلول عام 2030، في سياق تنويع الاقتصاد المحلي واستدامة الإيرادات.
إنّ كل ما ذكرناه يمثل نزرا قليلا مما يمكن أن تجنيه قطر من احتضان المونديال، وليست هي وحدها بل دول الخليج والمنطقة العربية والإسلامية أيضا.
فقد جعلت الدوحة نسخة 2022 عربية بامتياز، مما سيفيد اقتصادات المنطقة الآن وعلى المدى البعيد، والرسالة الأبرز ستكون هي أن العرب قادرون على التميز واحتضان الأحداث الكبرى وجذب الاستثمارات العالمية في شتى المجالات، تماما مثل باقي مناطق العالم المتقدم.
فهذا آخر تقرير لوكالة "ستاندرد آند بورز غلوبال" (S&P Global) للتصنيفات الائتمانية، يقول إن كأس العالم فيفا قطر 2022 سيعطي دفعة لاقتصادات الخليج.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.