شعار قسم مدونات

أشياء في الذاكرة.. أفكارنا الهاربة

7 خطوات للهروب من دوامة الأفكار المقلقة التي تنغص حياتك GettyImages-521983717
الكاتب: ما يلبث عقلي أن يكون جلمود صخر عندما أقرر أن تسيح هذه الأفكار فتصبح حروفا أو مادة للقراءة.. لقد تبخرت الأفكار وكأنها لم تكن (غيتي إيميجز)

تتزاحم الأفكار في الرأس مثل قطيع وأحيانا يكاد رأسك ينفجر من كثرتها، لكنك لا تجدها عندما تريد تحويلها إلى مشروع كتاب أو مقال أو قصيدة أو نص، وكم نتحدث مع أصدقائنا عن قصص وحكايات عن وجوه وأحداث ومواقف ونسردها لساعات أحيانا لكننا لا نعثر عليها عندما نريد تحويلها إلى كلمات تقرأ.

ما الذي يجول في رأسي الآن؟ الكثير والكثير، لدي أفكار حول مذكرات شخصية أكتبها عن الناس والحياة والوجوه التي قابلت والكتب التي قرأت والأحداث العجيبة التي عاصرت، أفكار عن الكون والله والحياة والعقل والعربي والثورة والريف والمدينة التي أعيش فيها، ثم ما يلبث عقلي أن يكون جلمود صخر عندما أقرر أن تسيح هذه الأفكار فتصبح حروفا أو مادة للقراءة، لقد تبخرت الأفكار وكأنها لم تكن، وقد تعود عندما تكون في جلسة نميمة أو جلسة ود، وهكذا.

الكتابة عمل إبداعي هذا صحيح، ولكنها تمرين يومي بدءا من تحويل المادة إلى فكرة ثم صناعتها، وقبل صناعتها التحضير لها، مرورا بطور الكتابة وإخراجها للوجود.

يحضرني بعض من الأصدقاء الرائعين الذين فكروا أكثر من مرة بكتابة تجاربهم على الورق، ومنذ سنوات وأنا أسألهم عن إنجازهم العمل، فيكون الرد بأنهم لم يتمكنوا حتى الآن.

أحدهم يقول لي إن المسودة شبه جاهزة، وآخر يقول لي إن هناك بعض الوثائق المتعلقة ببعض الأحداث لم يعثر عليها، لكن العمل جاهز تقريبا، وآخرون مثلهم لديهم أسبابهم لعدم الكتابة أو التوقف عنها.

والسبب -بحسب رأيي- هو التوقف عن تمرين عضلة الكتابة، وأنا لست من أولئك الذين يعتقدون أنه من الواجب تخصيص وقت محدد وشرب القهوة أو طقوس معينة للبدء أو الاستمرار في الكتابة، فكثير من الروائع العالمية كتبت في أماكن وأوقات وبوسائل لم تكن بالحسبان، بل إن كثيرا منها عاشت بعد أن مات أصحابها عقودا من البؤس، والأمثلة كثيرة في الأدب العالمي.

أنا مثلا أحب أن أكتب بعد الفجر أو بعد أن أستيقظ من النوم، ولا أدري ما الرابط تحديدا، لكني أجد مزاجي أكثر صفاء وحيوية وقدرة على الكتابة من أي وقت آخر، وربما أن العادة جعلتني أحب هذا الوقت، لكن هذا ما يحدث تحديدا معي، فقد كتبت عشرات القصائد والعديد من الأعمال الأخرى، وأعددت مجموعة من الكتب في مثل هذا الوقت.

كل شخص بالطبع له طريقته في اقتناص الأفكار وتحويلها إلى نصوص وأعمال، وكل كاتب لديه أسلوب في مطاردة أفكاره الهاربة، لكن بعض الأفكار تظل هاربة لسنوات وربما لعقود إذا لم تتحول عملية الكتابة إلى صيد يومي وطرائد، وهذا ما تعتقده الروائية التشيلية إيزابيل الليندي التي تقول إنها تقضي 10 ساعات أو 12 ساعة في اليوم وحدها في غرفة الكتابة "لا أتحدث مع أحد، لا أرد على الهاتف، أنا مجرد وسيط أو أداة لشيء يحدث خارج نطاق وعيي، أصوات تتحدث من خلالي، أنا أصنع عالما خياليا لا أملكه، أنا مجرد أداة، لقد اكتشفت في هذا التمرين اليومي الطويل الشاق الكثير عن نفسي وعن الحياة".

في تجربتي الشخصية كمراسل ميداني تلفزيوني لـ10 سنوات التقطت عيني وأذني وذاكرتي الكثير من الأحداث، بعضها كبير وبعضها اعتيادي، حروب وانفجارات وأوبئة وحكايات مدن وفقراء وقصص نجاح وأطعمة ومطابخ وتفاصيل أخرى عن حياة الفقراء والمزارعين ورجال الأعمال وأفكار عن الفن وصناعة العطر وقصص عن الأشجار والطيور ومناخات المدن والفلكلور والآثار والحياة البرية وأشياء أخرى، وهي تفاصيل تزدحم في الذاكرة من 22 محافظة يمنية لا أقول إنني زرتها جميعا ولكنني زرت معظمها عدة مرات ورأيت المختلف والغريب والجميل وما يمكن أن يتحول إلى نص والبعض يمكن أن يتحول إلى كتاب.

عندما التحقت بالتلفزيون كنت أعتقد أن الكاميرا عين ثالثة، لكنني مع الوقت والمراس والتجربة اكتشفت أن مهمتها للأسف تسطيح الأعمال العظيمة وتحويلها إلى فيديوهات وصور للاستهلاك اليومي، وأتحدث تحديدا عن العمل التلفزيوني، سواء ما يتعلق بصناعة الأخبار أو غيرها، وهذا لا ينطبق على صناعة الأفلام الروائية، فبعض الأفلام الأجنبية المصنوعة من رواية أو كتاب تتفوق على الرواية نفسها، إذ أصبحت الكاميرا إضافة إلى المادة المكتوبة، ومن النادر أن تجد هذا.

تصنع الكتابة ما لا تصنعه الكاميرا، وهذا الرأي قد يعتبره البعض تراجعا في فهم عصر الصورة و"السوشيال ميديا" الذي قضى على الكتابة والكتب تقريبا، والتي لم يبق لها سوى عشاق المكاتب ورائحة الكتب، أما الجيل الجديد -خاصة في عالمنا العربي- فلم تعد المكتبات مكانا ملائما وعشقا كما كان بالنسبة لنا.

هذه استدارة كاملة بعد عملي مع الكاميرا إلى الكتابة والنصوص محاولا تمرين عضلة الكتابة من جديد، لكن الأمر لا يبدو سهلا كما اعتقدت، إنها محاولة لعصف الأفكار ومطاردتها أو القبض عليها، وهذه مهمة عميل سري وليس الكاتب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.