شعار قسم مدونات

همسات خريفية

الكاتب: أراني الخريف ريحه تثور فتثير معها غبار الأرض ولربما ارتحلت به مسافات ومسافات (وكالة الأناضول)

ما كان لحال عايشناها بالأمس أن تدوم اليوم، فقد تغيرت الألوان والأصوات والروائح، وتغير ضوء الشمس وطعم الثمر، وصار الخريف يطوف على النفس بفيض من خواطره ومعانيه، ويروي لها بعضا من حكاياته، ويسرد جانبا من حكمته، فأجدني مصغيا لما يقول مأخوذا بما يعرضه من مشاهد وصور.

لقد بصّرني الخريف حقيقة الدنيا فأراني ورقة تهوي عن غصنها بعد أن علقت به زمانا.

عرفت أنها كانت من قبل خضراء نضرة، فقد نبتت على الغصن كائنا غضا دقيقا، ثم صارت تكبر به ومعه شيئا فشيئا، ولزمته مع قرينات لها أشهرا تأخذ منه وتعطيه، وبلغة لا يفهمها البشر صارت تسبح بحمد ربها.

مرارا تعاقب عليها الليل والنهار، فنهلت من حرارة الشمس، وعشقت ضوء القمر، وطربت لألحان الطير، وتراقصت مع غزل النسيم، فلما استوفت نصيبها من ذلك كله توقف عنها ماء الحياة وجفت عروقها وحل بها يباس واصفرار، وفي لحظة ما كان لها أن تتقدم أو تتأخر فصلت الورقة عن الغصن وتركت مكانا كان لها وسقطت.

من تراب الأرض خرجت مادتها، وإلى أديم الأرض آبت، كانت ترابا ورجعت ترابا.

أراني الخريف ريحه تثور فتثير معها غبار الأرض، ولربما ارتحلت به مسافات ومسافات وعبثت بما يعترضها من خشاش وحملت في طريقها ما خف، وحطمت ما يبس، فإذا وصلت دارا مشيدة حادت عنها، وإذا بلغت أشجارا راسخة الجذور خارت عندها، وإذا جابهت جبالا راسية ارتدت عنها وانثنت، فأمام الريح العاتية لا تثبت إلا الجذور العميقة، ومن لم تكن له تلك الجذور فلجوؤه إلى حصن متجذر مكين يعطيه قوة ذلك الحصن.

حدثني الخريف عن مخلوقات غرها جمال الربيع فهامت فيه، وأسكرتها متعة الصيف فانتشت بها وكأنها رأت من طيب العيش ما أنساها أن دوام الحال من المحال، فلم تعد للقادم من الأيام عدته، ولم تجمع له مؤونته، فإذا بالأيام تداهمها حاملة معها جوعا مضنيا وبردا قارسا وريحا عاصفة، وما كان لها أن تستدرك ما فاتها فانتهت إلى مصيرها المحتوم وصارت خبرا بعد عين.

مضيت مع الخريف إلى الحقول العطشى لأرى فلاحا ينظر إلى السماء مترقبا أول المطر، فإذا رأى الغيوم تكاثفت وأرسلت أول قطرها تبسم راضيا شاكرا منشئ السحاب وتمتم: لقد آن الأوان.. وعدت معه في يوم تال لأراه يكابد مع محراثه، يشق الأرض وينثر فيها البذار، فإذا أنهى كدح يومه وقف يمسح عن جبينه العرق وينظر إلى السماء وجوارحه تنطق بالدعاء إلى الخالق أن يرسل الغيث وينبت الزرع، لقد فهم أن كدحه والدعاء مقترنان، وأن التوكل في حقيقته أخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وتعلق القلب بالله وكأن الأسباب لا شيء.

وفي الخريف يحلق الخيال مع الطيور تتراءى في جو السماء أسرابا تلو أسراب، تهاجر بين البلدان إلى حيث يستقيم لها العيش وتستقر لها أسباب الحياة، فلا تنتظر تأشيرات ولا تعترضها حدود ولا تحمل معها جوازات سفر، فهي في غنى عن كل هذا، لأن أرض الله كلها وطن لها، ومع المشهد تنشأ غبطة ويثور السؤال: كيف للإنسان أن يمتلك جناحي طائر؟

يراني الخريف غارقا في تأملات حزينة فيعز عليه ذلك، ويضمخني بعطر التراب إذ هش لمقدم حبات المطر، ثم يحملني إلى كرم العنب لنقطف آخر عنقود فيه، وأتذوق حباته التي أخذت من الحلو أقصاه بعدما شبعت من حرارة الصيف فتتملكني نشوة عارمة، ونمضي بعدها إلى دروب فرشت بأوراق الشجر المتساقطة من عليائها، لتصير للدروب سجادة بديعة الألوان ساحرة الصور، وأمشي هناك مثل أمير يطوف في القصر حتى أبلغ مقعدا خشبيا عند جدول صغير وأجلس مشدودا لخرير الماء ينزل السكينة في القلب، وأتطلع إلى السماء لأسرح في جمال ألوان قوس قزح.

هنا يتأكد لي أن أسباب الهناء قد تغير شكلها في الخريف ولكنها لا تنقطع، وأن منابع الجمال قد تبدل مواقعها ولكنها لا تنضب، بل يتأكد لي أن الجمال الذي كان محيطا بنا قد تغلغل في الخريف إلى ذواتنا، فمن لم يجد جمال الخريف فإنه لم يكتشف ذاته بعد.