شعار قسم مدونات

عن المعرفة الغامضة!

الكاتب: العلم ليس شيئا نهائيا، بل الشيء النهائي هو تقدير أمور الخبرة المباشرة واستعمالها (الجزيرة)

عند تناول مفهوم المعرفة يبدو من الوهلة الأولى أنه مفهوم واحد وبسيط، ولكن عندما نخوض في مفهومه نجد بركانا يتفجر ويتطاير من مفاهيم عدة، فالفلاسفة الغربيون يتناولونه من جهة، وبعض الفلاسفة المسلمين يتناولونه من جهة أخرى، بل يختلفون فيما بينهم في مفهومه، ما يدل على أنه مفهوم يصعب جدا تحديده.

أشار جون ديوي (ت:1371هـ، 1952م) في كتابه "البحث عن اليقين" إلى أن عددا من مفاهيم المعرفة وفق مقدار عدد الإجراءات، أو كما عبّر عنه التعريف العملياتي للتصورات، فوضح له بمثال: حين نطلق المعرفة التأملية ونقصد بها كذلك المعرفة الأداتية، ولا نعني بوجود معرفة إلا التأملية، إذن، إن منشأ اختلاف مفهوم المعرفة راجع -من التعريف العملياتي- إلى التصورات، ونصه بذلك "أما أن يكون للمعرفة معان كثيرة فهذا ناشئ من التعريف العملياتي للتصورات. فهناك عدد من المفاهيم للمعرفة بمقدار عدد العمليات المميزة التي بها تحل المواقف المعضلة".

وحين نقول إن المعرفة (التأملية) من حيث هي كذلك أداتية، فلسنا نعني وجود صورة (أولية) للمعرفة غير (التأملية)، تلك التي تدرك مباشرة. الذي نعنيه أننا نظفر ونتمتع مباشرة بالمعاني التي نبلغها من تجربة الأمور الناشئة عن المعرفة التأملية. ومن العبث البحث في أيهما أجدر بلقب المعرفة: هل نتائج المنهج التأملي من حيث هو كذلك، أو الأمور الحادثة الغنية بالمعنى، القادرة على توجيه الإدراك والنفع بما هو أصدق. ومما يطابق ما اصطلحنا أن نسميه النتائج التأملية للمناهج الصالحة باسم العلم. غير أن العلم وفق هذا التصور ليس شيئا نهائيا، بل الشيء النهائي هو تقدير أمور الخبرة المباشرة واستعمالها. وهذه الأمور تصبح معروفة بمقدار ما تكون مكوناتها وصورتها نتيجة العلم.

يقول إدغار موران (1921م) "إن ما نجده في فكرة المعرفة هو الجهل والمجهول والظل. تصير معرفتنا أجنبية وغريبة عنا حينما نود معرفتها، رغم أنها حميمية جدا ومألوفة بالنسبة إلينا".

إلا أنها مع ذلك أكثر من مجرد علم، لأنها أشياء طبيعية نجربها في علاقاتها، واستمرارها يتركز في صور فردية غنية محدودة" [1]. وأما في كتابه "المنطق نظرية البحث"، فيخبرنا أن مفهوم المعرفة مفهوم غامض، وإذا أطلق مصطلح المعرفة فيكون وفق نتائج البحث، وما قرره يكون وفق الإجراءات، فيقول "وكذلك كلمة المعرفة، صالحة للإشارة إلى هدف البحث ونهايته، ولكنها هي الأخرى تعاني من غموض المعنى، إذا ما قيل إن بلوغ المعرفة أو بلوغ الحقيقة، هو نهاية البحث" [2].

وأما برتراند راسل (ت:1390هـ، 1970م) فقد أكد على غموض مفهوم المعرفة في كتابه "بحث في المعنى والصدق"، فيقول "إن المعرفة حدودها غامضة جدا ونحن، عندما نباشر البحث نفترض أن القضايا التي يتعلق البحث بها هي إما صادقة وإما كاذبة، وقد نجد دليلا وقد لا نجد.. نحن لا نعرف عن وجود حياة في مكان آخر، في الكون، لكننا مصيبون بالشعور الأكيد أنه قد تكون أو لا تكون، وهكذا، نحن نحتاج إلى الصدق كما نحتاج إلى المعرفة، وذلك، لأن حدود المعرفة غير مؤكدة وغامضة، ولأننا من دون قانون الثالث المرفوع، لا نستطيع أن نطرح أسئلة تؤدي إلى اكتشافات" [3].

وكذلك يقول إدغار موران (1921م) "إن ما نجده في فكرة المعرفة هو الجهل والمجهول والظل. تصير معرفتنا أجنبية وغريبة عنا حينما نود معرفتها، رغم أنها حميمية جدا ومألوفة بالنسبة إلينا. هكذا نوجد منذ البداية أمام مفارقة المعرفة التي لا تنفجر إلى شظايا أمام أول تساؤل فقط، بل تكشف المجهول في ذاتها أيضا، وتجهل حتى معنى فعل "عرف". إذا كان مفهوم المعرفة يتنوع ويتكاثر عندما ننظر فيه، فبإمكاننا أن نفترض بحق أنه يشمل في ذاته التنوع والتكاثر، حينئذ لا يمكن اختزال المعرفة إلى مفهوم واحد من قبيل المعلومة أو الوصف أو الفكرة أو النظرية، يجب بالأحرى أن نتصور فيها عدة أنماط أو مستويات تقابل كل واحد من هذه الحدود" [4].

 

مراجع

  • [1] ديوي، جون، البحث عن اليقين، ترجمة: أحمد فؤاد (القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط1، 1436هـ، 2015م)، ص248، 249.
  • [2] ديوي، جون، المنطق "نظرية البحث"، ترجمة: زكي نجيب (القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط2، 1439هـ، 2018م)، ص64.
  • [3] راسل، برتراند، بحث في المعنى والصدق، ترجمة: حيدر حاج (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 1434هـ، 2013م)، ص426.
  • [4] موران، إدغار، المنهج، معرفة المعرفة الأفكار، ترجمة: يوسف ديبس (المغرب: أفريقيا الشرق، د.ط، 1434هـ، 2013م)، ص23.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.