موضوع هذا الكتاب "علي الطنطاوي" نفسه، إلا أنه يقول في مقدمة كتابه "ليس كل ما في هذا الكتاب لعلي الطنطاوي الذي يكتب هذه المقدمة، بل إن كل فصل فيه لـ"علي الطنطاوي" الذي كان في ذلك التاريخ. وليس المؤلف واحدا، ولكن جماعة في واحد، وكذلك الشأن في كل إنسان. ولكلٍّ من هؤلاء "المؤلفين" آراؤه وعواطفه، وأنا أحس أن كثيرا من هذه الآراء وهذه العواطف مما أنكره الآن. ولكني تركت كل شيء على حاله، ما بدلت فيه ولا عدلت".
وهذا مما يدل القارئ على حياد المؤلف ونزاهته وإنصافه للقارئ من نفسه. ويبدو أن هذه سجية من سجايا علي الطنطاوي رحمه الله، يقول الحق ولو على نفسه، وهذا ما تجده في أكثر ما تقرؤه للطنطاوي في كتبه ومقالاته.
تنقل الطنطاوي في مقالاته هذه بين مواضيع شتى ومتعددة، فجاء هذا الكتاب كطاقة زهر تأسرك بألوانها وتجذبك بسحر رياها. وهذا دأب علي الطنطاوي وهذه عادته في كتاباته، فهو ينقلك في رياض حسان ويأخذك إلى الجنان لتبصر بعين قلبك الحور العين والنعيم المقيم، بعذب كلماته وسحر بيانه، يصبه في نفسك صبا ويسكبه في روحك سكبا.
تحدث في مقالاته هذه عن نفسه وطفولته ومدرسته وأبيه وأمه التي ما فارقه ذكراها، وتحدث عن أساتذته، "أصحاب الفضل والعلم"، وعن صديقه الأثير أنور العطار، وعن سفره إلى لبنان والعراق، أطال الحديث عن الذكريات، وما الكتاب كله إلا حديث الذكريات، إلا أنه أفرد لذكرياته كتابا قائما برأسه عنوانه "ذكريات علي الطنطاوي"، وهو من أنفس الكتب التي قرأت وأمتعها وأغناها وأغزرها علما.
أشار الطنطاوي إلى فكرة "المستقبل" الذي نطارده فلا نجده، ويضيع العمر بحثا عنه. وتحدث عن أزمة الخريجين الذين لا يجدون عملا، وعن القيم المجردة (الصدق والوفاء والحق وغيرها) التي لا تجد لها مكانا في دنيانا، وتحدث عن المرض والعافية، وعن مجلة الرسالة التي ماتت فمات بموتها علم كثير، مجلة الرسالة التي لم نعرفها نحن فحرمنا خيرها وعلمها.
تحدث عن دمشق وقاسيون والغوطة ومرابع ذكريات صباه، وعن المقبرة التي تضم تحت ثراها أباه وأمه، وعن البيوت الدمشقية التي كانت تحفظ سر ساكنيها، وتحدث عن القضاء وهيبته وهمومه وعن مفخرة تاريخنا بقضاء عادل لم يشهد التاريخ مثله.
وفي حديثه عن عمره وذكرياته وأحلامه وقف واستوقف وبكى واستبكى، وقال "لست أدري ما الذي يحملني على ذكر الماضي ونبش عظامه النخرة؟ وما الذي يغريني بأن أتلمس مكان أحلامي من الواقع.. وأنا أعلم أن أحلامي التي بنيتها بقطع قلبي وأنقاض أيامي، ورويت رياضها بدمع عيني، قد جف زهرها وصوح نبتها، وانهارت أمام عيني دفعة واحدة.. فأيست منها وذهبت أعيش بقلب محطوم وكبد مكلومة". ص 35-36.
لن أقدر أن أوفي حق هذا الكتاب بمقال أو كلمات أنثرهن هنا أو هناك، لا. ولن يفي حق الطنطاوي وأدبه مثلي، وأنى هذا! إلا أني أردت أن أتعلم من الطنطاوي من جديد، فعدت إلى كتابه هذا واستوقفني حديثه عن المدارس والطلاب (وكل أحاديثه وكلماته تستوقفني للتأمل الطويل في غزارة علمه وقوة بيانه والاستزادة منهما)، فجعل يقارن بين جيله وجيل أبناء بناته (أسباطه).
وفي الصفحة 49 من الكتاب يقول تعليقا على بكاء ابن ابنته رغبة في المدرسة وحبا فيها: "وما عجب أن تبكوا -يا أولادي- رغبة في المدرسة وقد صارت لكم جنات، وما عجب أن بكي منها وقد كانت علينا جحيما. هي لكم مائدة عليها الطعام اللذ الخفيف في أجمل الأواني، وقد كانت لنا طعاما دسما ثقيلا في أوسخ آنية وأقبح مظهر.
ولكن (وهنا مربط الفرس- كما يقال) من استطاع منا أن يأكل أكثر، وأن يهضم ما أكل، وأن ينتفع به؟ أنتم على كل المشهيات، أم نحن على كل تلك المنفرات"؟ وسرد فيما مضى من الكتاب مأساته ومأساة جيله مع المدرسة، وكيف كان الولد يجر إلى المدرسة جرا وبكاؤه يقرح عينيه وصياحه يجرح حنجرته والضربات تنزل على رأسه يساق كأنه مجرم عات، يرى نفسه مظلوما ويرى الناس كلهم عليه حتى أبويه.. فتصوروا أثر ذلك في نفسه، وعمله في مستقبله.
ثم يقول: إنكم تنعمون بخيرات كنا محرومين منها، وتستمتعون بمتع ما كنا نسمع بها.. وكانت دروسنا أصعب وبرامجنا أحفل وأملأ، وكنا مع ذلك أكثر منكم إقبالا عليها، واشتغالا بها، ونجاحا فيها، وكنا نقرأ فوقها كثيرا من كتب العلم، وكنا نؤم مجالس العلماء في المساجد وفي البيوت.. كنا إذا أردنا التسلية قرأنا قصة عنتر والملك سيف وحمزة البهلوان، وهي كتب أدب وفروسية وبطولة. ص 53.
إن مما يزيد الحزن حزنا والألم ألما أن المؤلف كتب هذا الكلام وبث شكاته فيها سنة 1959، أي قبل 60 عاما، وكان يرثي للحال التي وصل إليها التلاميذ يومها، قبل 60 عاما من اليوم، فماذا نقول نحن اليوم، وأي شيء نرثي، أنرثي أنفسنا نحن، أم نرثي أساتذتنا، أم نبكي أولادنا ومدارسهم؟!
إن الحِكم والعبر في كلام الطنطاوي أكثر مما يحصيه مثلي في كلمات، ولكن أردت أن أقارن أنا أيضا بين مدارس 1959 ومدارسنا اليوم!
إن نظرة سريعة خاطفة نلقيها اليوم على حال المدرسة والتلميذ والمعلم لتبكي الفؤاد وتَحْطِم القلب وتهز الروح وتهد الكيان. وتذكرني بهذه الأبيات:
تصدى للتدريس كل مهوسٍ .. بليدٍ يسمى بالفقيه المدرسِ
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا .. ببيتٍ قديمٍ شاع في كل مجلسِ
لقد هزلت حتى بدا من هزالها .. كلاها وحتى سامها كل مفلسِ
وهذا الكلام لا يعني بالتأكيد العموم، فإن الدنيا لا تخلو من أهل للعلم حملة للأمانة حاملين للراية، ولكن البلاء شديد والخطب جلل.
أرجو أن يعود التعليم إلى مكانته ويستعيد المعلم هيبته وترتقي المدارس مراقيها ويُحصّل التلاميذ العلم النافع والخلق القويم، فبالعلم وحده ترقى الأمم وتسمو. وإن هذا لن يتأتى إلا بحركة إصلاح للتعليم شاملة تعيد النظر في مبتدئه ومنتهاه وغايته ومغزاه.
وقد أورد المؤلف رحمه الله 35 مقالة في كتابه هذا، كتبها بين عامي 1931 و1959، وصدرت الطبعة الأولى من الكتاب سنة 1960، وأنا أقرأ الآن من الطبعة الثامنة بتحقيق مجاهد مأمون ديرانية ابن ابنة الشيخ (سبطه). ويقال "سبط" لابن البنت، أما ابن الابن فهو الحفيد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.