شعار قسم مدونات

هل قرأت كتاب "جيل النصر المنشود"؟

غلاف كتاب جيل النصر المنشود للدكتور يوسف القرضاوي رحمه الله تعالى (مواقع التواصل الاجتماعي)

رحم الله الشيخ الجليل يوسف القرضاوي؛ لم يجد ردا على شكاية صاحبه من ظلمة الواقع الذي يعيشه المسلمون إلا أن يتبصّر ويبصّرنا بشائر فجر قادم، تنتقل الأمة فيه من ضعف إلى قوة، ويتبدل ذلّها عزًّا، وتزيل رايات النصر آثار الهزيمة.

رؤيته هذه لم تشكلها أحلام واهية ولا أمان زائفة، بل رسخها يقين بموعود الله، وقراءة واعية لسنّته في خلقه. ولأن الشيخ يعي أن سنة الله لا تحابي القاعدين والمتخاذلين، فإنه يؤكد أن النصر القادم لن يأتي من فراغ، ولن يحل في فراغ؛ وإنما له جيل سيكون مادة النصر، كما سيكون منطلق النصر وسبيله وغايته.. وعن ذلك الجيل يحدثنا القرضاوي في كتابه "جيل النصر المنشود".

سبيل الخلاص

لا يمكن للباحث عن سبيل خلاص الأمة أن يتجاوز التأمل في واقعها المعيش، وعند التأمل سيرى الواقع مأساويا مريرا. فجمهرة الأمة مخدرة ذاهلة عن نفسها، غافلة عن حقيقة رسالتها التي هي مبرر وجودها وبقائها، فهي لا تعرف عدوها من صديقها، ولا تبصر ما يحاك لها من مؤامرات في الظلام، وما يوجّه إليها من معاول الهدم في صور براقة، وتحت عناوين خداعة تسمي الكفر حرية، والفجور فنا، والانحلال تقدما.

ثم تأتي مع ذلك فجوات تحول دون تماسك جسد الأمة، فبين مسلمي بلد وآخر تحلّ فجوة تحدثها المذاهب المستوردة والعصبيات القومية أو الإقليمية، وداخل البلد الواحد فجوة بين الجماهير والحاكم المفروض عليها، وفجوة أخرى بين الجماهير المتدينة بطبعها وبين فئة متعلمة غزاها الاستعمار الثقافي، وحشا رؤوسها بمفاهيم خاطئة عن الإسلام وشريعته وتاريخه وأمته.

والخروج من هذا الواقع يعني تحقيق النصر في ميادين عدة: النصر على الضعف المتحكم فينا، والنصر على عدو من أنفسنا، والنصر على عدو خارجي يكيد لنا ظاهرا وخفية. ولكنّ للنصر قوانين وسننا سجلها الله في كتابه الكريم، ليعرفها عباده المؤمنون، ويتعاملوا معها على بصيرة؛ وأول هذه القوانين أن النصر من عند الله، فمن نصره الله فلن يغلب، ومن خذله فلن ينصر أبدا؛ قال تعالى: {إن ینصركم الله فلا غالب لكم وإن یخذلكم فمن ذا الذي ینصركم من بعده وعلى الله فلیتوكل المؤمنون} [آل عمران: 160]. والقانون الثاني من قوانين النصر الإلهية للمسلمين أن الله لا ينصر إلا من نصره، قال تعالى: {یا أیها الذین آمنوا إن تنصروا الله ینصركم ویثبت أقدامكم} [محمد: 7].

ثم يأتي القانون الثالث ليعلمنا أن النصر كما لا يكون إلا للمؤمنين لا يكون إلا بالمؤمنين، فالنصر لهم، والنصر بهم، فهم غاية النصر وعدّته، وفي هذا يخاطب الله رسوله الكريم بقوله: {هو الذي أیدك بنصره وبالمؤمنین * وألف بين قلوبهم} [الأنفال: 62-63]

وإذا كان النصر لا يكون إلا للمؤمنين وبالمؤمنين، فإن هؤلاء المؤمنين لا يهبطون من السماء، ولكنهم ينبتون من الأرض، فهم نبت يحتاج إلى زرّاع صادقين صابرين يتعهدونه في مراحل نمائه. ولهذا كان أكبر همّ المصلحين الإسلاميين الواعين أن ينشأ في الأمة جيل جديد من المسلمين والمسلمات يستحق أن يسمى "جيل النصر"، يعود بالإسلام إلى روحه الصافية، وهذا الجيل القادم لا محالة هو أول ما تحتاج إليه أمتنا.

سمات هذا الجيل في القرآن والسنة

من قرأ كتاب الله تعالى وجد أفراد هذا الجيل في كثير من سوره وآياته.. وجدهم مثلا في سورة الأعراف حين يتلو قوله تعالى: {وممن خلقنا أمة یهدون بالحق وبه یعدلون} [الأعراف: 181].

فالحق غايتهم، والحق منهاجهم، والحق مرجعهم، إليه يدعون، وبنوره يهتدون، وبحكمه يعدلون.

ومن طالع السنة المطهرة وقرأ الأحاديث الشريفة رآهم بعين قلبه رؤية لا غبش فيها؛ ورأى فيهم "الغرباء" الذين يحيون ما أمات الناس من سنن النبوة، ويصلحون ما أفسدوه منها، ورأى فيهم "القابضين على دينهم" في أيام الفتن، وإن كان "كقبض على الجمر"، ورأى فيهم الفئة المنصورة التي تتحرر على يديها فلسطين، وتنهزم يهود، ويكون كل الكون في صفها.

هم جيل يؤمن بالواقعية والعلمية، كبير الآمال ولكنه واقعي التفكير؛ لا ييأس من روح الله، ولكنه يعرف حدود قدراته، ودائرة إمكاناته؛ فلا يتعجل الثمرة قبل أوانها، ولا يورط نفسه فيما لا يستطيع.. جيل يؤمن بالعلم، ويحترم العقل، ويدين للبرهان، ويرفض الخرافة، قد وضع نصب عينيه قوله تعالى: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} [الأنعام: 148].

جيل عمل وبناء جماعي؛ لا يقف عند التغنّي بأمجاد الماضي، ولا عند النواح على هزائم الحاضر، ولا عند التمني لانتصارات المستقبل، إنما يؤمن بأن المجد بالعطاء لا بالمفاخرة، وأن الانتصار على مآسي اليوم، وتحقيق آمال الغد، إنما يتحقق بالجد لا بالهزل، وبالبناء لا بالهدم. وهو مع ذلك يؤمن بأن العمل الجماعي لنصرة الإسلام واستعادة سلطانه فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع، وأن المعارك الكبرى توحّد المختلفين أمام العدو المشترك، وشعاره {إن الله یحب الذین یقـتلون فی سبیله صفا كأنهم بنیـان مرصوص} [الصف: 4].

جيل من الربانيين الذين يعيشون في الدنيا بقلوب أهل الآخرة، وقد وصلوا بحبل الله عراهم، وأضاؤوا بنوره خطاهم، يميزهم إخلاصهم؛ فقد تحرروا من عبادة أنفسهم وأهوائهم، كما تحرروا من عبادة كل شيء دون الله أو مع الله، فصار بالله اعتصامهم، ولله قيامهم، ومن الله استمدادهم، وإلى الله فرارهم.

هم مسلمون لا بالاسم واللقب، ولا بحكم الوراثة أو البيئة، بل بالدراسة والبرهان، والتذوق والتخلق، يرفضون التبعية للغرب وللشرق معا، فنورهم مقتبس من شجرة مباركة {لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور} [النور: 35].

هم جيل دعوة وحركة يسيرون على هدى الصحابة من المهاجرين والأنصار؛ أرض الله كلها ميدانهم، ودار الإسلام كلها وطنهم، كلهم يقول: أمتي، ليس فيهم من يقول: نفسي نفسي، أعظم ما يشغلهم رد الشاردين عن الله ليعودوا إليه تائبين، ودعوة الضالين عن منهج الإسلام ليرجعوا إليه مهتدين.

هم غرباء، ولكن يعايشون الناس؛ وغربتهم ليست غربة وطن، بل غربة روح وفكر واتجاه، ولكن هذه الغربة لا تجعلهم ينطوون على أنفسهم يائسين مستسلمين، وإنما يظلون في الميدان صامدين، يصلحون إذا فسد الناس، ويصلحون ما أفسد الناس.

جيل قوة وعزة يغلب المحن ولا تغلبه، ويخرج منها أطهر وأزكى، وأصفى وأنقى.

وإنهم مع ذلك كله جيل توازن واعتدال؛ غيورون على دينهم، متسامحون مع مخالفيهم، جعلوا شعارهم: نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه. وازنوا بين دنياهم وآخرتهم، فلم يهربوا من الدنيا هرب أهل الصوامع، ولم يتكالبوا عليها تكالب أهل الشح والغفلة، ويدعون لأنفسهم بما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي".

ذلكم هو الجيل المنشود

هذا هو الجيل الذي تنشده الأمة كلها من جاكرتا إلى رباط الفتح، وتسعى جاهدة لتكوينه.

وهو الذي تعمل بعض القوى العالمية على إجهاضه قبل أن يولد، وعلى وأده بعد أن يوجد، فتحاول تضليله عن الهدف الحقيقي بأهداف موهومة، وشغله عن معركته الكبرى بمعارك جانبية تافهة، وإلهائه عن ضرب العدو بضرب بعضهم بعضا.

هذا الجيل وتكوينه وإعداده هو ما ينبغي أن يكون الشغل الشاغل للحركات الإسلامية المعاصرة وللدعاة والمفكرين والفقهاء والمربّين، كما ينبغي العمل على حمايته من نفسه أولا حتى لا يتآكل من الداخل، ثم حمايته من كيد الأعداء، وجهل الأصدقاء.

هو الجيل الذي ترتفع به راية الله في أرض الله، ويسود به دين الخالق دنيا الخلق، وتشرق به أنوار السماء على ظلمات الأرض.

وبعد.. فهذه إطلالة من نافذة فتحناها على الكتاب، ولا بد للإطلالة أن تفجر سؤال النفس للنفس: ما موقعك من ذلك الجيل؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.