شعار قسم مدونات

عندما يلعب المضطهدون كرة القدم

كرة القدم المصرية.. تاريخ حافل بمقاومة الاستعمار الرياضي المصدر: الجزيرة الوثائقية
(الجزيرة)

إحدى عشرة قدما سوداء. يتتبع هذا الكتاب تاريخ القارة الأفريقية من بوابة تاريخ كرة القدم، و"يكتب تاريخ كرة القدم بأقدام الفقراء الحفاة. في تلك الملاعب الخضراء التي يحكمها اللاعبون، تخلق ذاكرة الشعوب، يفعل المضطهدون فعلتهم الشنيعة، بأن يسجلوا ما تحاول الحكومات محوه، وهو تاريخ البشر البسطاء، في مقابل التاريخ المزيف الذي تكتبه السلطة ومن فيها". ص 293.

لقد جاء هذا الكتاب ليحدثنا عن معاناة أفريقيا وأهلها عبر كرة القدم الأفريقية، ليروي لنا عن طمع البيض ومأساة العبيد، "لقد كان اللاعبون الأفريقيون يركضون كما تعودوا لمئات السنين، خائفين من الاصطياد، كانوا يركضون كما تعلموا من آبائهم، هربًا من شباك صيادي العبيد. حاولوا مرارا وتكرارا أن يلعبوا كما تعودوا هناك في قراهم ومدنهم وبين أقاربهم وأصدقائهم، وكان عبثا؛ فهنا وبين المئات والآلاف من الصيادين المتربصين في المدرجات كانوا يشعرون بأنهم فرائس، كانوا يركضون هربا". ص 20.

كانوا يركضون هربا من صيادين قرروا سرقة أرضهم ونقلهم من أفريقيا لخدمة السيد الأبيض في القارة البكر، "في السنغال كان يتم تجميع الآلاف وعشرات الآلاف ومئات الآلاف والملايين، على مدى ثلاثة قرون من الزمن، ويتم شحنهم كقطعان إلى العالم الجديد. في السنغال أصبح لتجارة العبيد قواعدها وقوانينها. في السنغال تم تفريغ القارة الأفريقية من الملايين من سكانها، ونقلهم إلى قارة أخرى، بالطبع بعد قتل سكانها القدامى". ص 21.

طاف بنا الكاتب على ليبيريا ليحدثنا عن جورج وايا "الطرزان الحقيقي لسينما الفقراء" الذي كان يحارب أسود وأفيال ونمور الكرة الأوروبية

إطلالة على تاريخ أفريقيا

لقد تمكن الكاتب من توثيق تاريخ أفريقيا السياسي بأسلوب رشيق يأسر عين القارئ ووجدانه وينقله إلى بلدان القارة السمراء وقراها وأحيائها، فتنقل بنا من مصر في الشمال إلى جنوب أفريقيا، ويطل بنا على جمال عبد الناصر والخلاف بين مصر وتونس، والقذافي وحربه مع تشاد، ونقل الليبيين من أدراج المشجعين في الملعب إلى ساحات الحرب "ليموتوا من أجل حكومتين كانتا لا تعرفان لماذا تتحاربان".

وأحاديث عن نهاية الحكم الإمبراطوري في إثيوبيا، ثم حربها مع الصومال، بين السودان وجنوبه، حدثنا عن الجرائم المرتكبة بحق التوتسي في رواندا، وحديث طويل عن العنصرية التي حكمت جنوب أفريقيا حتى فرقت بين البيض والسود في كل شيء حتى في دورات المياه. وجرائم الجيش البرتغالي في موزامبيق.

من غينيا الاستوائية إلى السنغال إلى بوركينا فاسو إلى نيجيريا، إلى ساحل العاج مزرعة الكاكاو العالمية، إلى الكاميرون. وحديث عن مؤامرات الأوروبيين لتحييد الأفارقة عن كل شيء، حتى ائتمروا بمنتخب الكاميرون وسلبوه كأس العالم سنة 1990 زورا وظلما. وتذكير دائم بانحياز نوبل التي منعت جوائزها عن الأفارقة ردحا طويلا من الزمان.

طاف بنا الكاتب على ليبيريا ليحدثنا عن جورج وايا "الطرزان الحقيقي لسينما الفقراء" الذي كان يحارب أسود وأفيال ونمور الكرة الأوروبية، شخصيات حقيقية في معارك حقيقية، لا يتم فيها الإعادة أو المونتاج في حال الهزيمة. جورج وايا الذي بدأ حياته لاعب كرة قدم ثم صار رئيس ليبيريا.

غلاف إحدى عشرة قدما سوداء
غلاف إحدى عشرة قدما سوداء (مواقع التواصل)

أفريقيا تحقق الحلم وتلعب الكرة

خلال 60 عاما في أفريقيا، لم تبتعد الكرة عن السياسة، ولم تتوقف السياسة عن الاضطهاد، وإذا لم يكن بيد المستعمر، فبيد السلطة الحاكمة، فلقد خلف الاستعمار وراءه العديد من الجنرالات والشيوخ والمنافقين لكي يحكموا باسمه، فتحولت كرة القدم من حلم إلى سلعة، ومن بهجة إلى تعصب، لكن كل ذلك لم يمنع الشعوب الأفريقية، عاشقة تلك اللعبة، من صناعة البهجة بنفسها.

أسسوا أندية من عمال المناجم، ومن مريدي المقاهي، ومن القبائل، ومن طلبة المدارس، ومن رهبان الإرساليات، ومن عمال الترام، ومن سائقي السيارات، ومن الفلاحين، وصيادي السمك، وعمال مصانع الإسمنت، والمنبوذين، والمرضى، لم يتركوا أية فئة كان يأكلها اليأس من عدم لعب الكرة، إلا وقاموا بمنحهم كرة يلعبون بها، وكأسا يتنافسون عليها.

هؤلاء المضطهدون هم قرابين الملاعب، نجوم المستطيل الأخضر، والمهرولون نحو قلوب الفقراء بلا تأنّ

أفريقيا على درب التحرر الوطني

بطولة الأمم الأفريقية تبدأ في 1957 أولى خطواتها في إثيوبيا، الخطوة الأولى بقدر ما كانت صغيرة فإنها كانت تعبر عن مرحلة امتزجت فيها الأحلام بالحقيقة، "مرحلة طمح إليها الأفارقة لأن يعلنوا للعالم أنهم ليسوا أقل من أي سكان أي قارة أخرى، مرحلة دعاها كل من عاشها بمرحل التحرر الوطني". ص 39.

"فقط الذين يفكرون بأقدامهم وقلوبهم وليس بعقولهم، هم الذين يحرزون الأهداف من أجل الآخرين، وحين يأتي وقت المساومة يرفضون ذلك بكل حزم، مثلما كانوا يرفضون الهزيمة في الملعب من دون يأس".

هؤلاء المضطهدون هم قرابين الملاعب، نجوم المستطيل الأخضر، والمهرولون نحو قلوب الفقراء بلا تأنّ. حينما يسمعون الهتاف يطلقون كل قواهم من أجل تلبية النصر، وحينما يسمعون السباب يحنون رؤوسهم إمعانا في الاعتذار.

هؤلاء الذين يتجهون دوما حينما يحرزون الأهداف ناحية الجمهور وليس ناحية مجلس الإدارة وشركات الأدوات الرياضية ووكالات الإعلانات. هؤلاء هم المضطهدون وليسوا الآخرين الذين يلبسون نفس الزي، لكنهم يعطون ظهورهم للفرح ووجوههم للمال". ص 194.

تحرر العبيد وانتصرت الفريسة

في بطولة كأس العالم 1990 التقت الأرجنتين بطلة العالم الكاميرون، والكاميرون لم يكن لديها تجاه الخسارة أي خوف، فهي في النهاية فريق من فرق أفريقيا المطلوب منها دوما لعب دور الكومبارس في كأس العالم، ربما تجيد اللعب قليلا، تحتفظ بالكرة، يمارس لاعبوها بعض المهارات والحركات التي تعجب الجمهور، لكن في النهاية كان يجب أن يفوز البطل، ليصفق الجمهور، ويحضر دوما إلى الملعب، فلا يحضر الجمهور إلى الملعب من أجل أن يرى فريقه مهزوما، بل يأتي لكي يستمتع بالانتصار وقهر وإخضاع الخصم.

لكن الفريسة فازت، فازت أفريقيا، فازت الفريسة القديمة، كانت الهزيمة مدوية لدرجة أن صوت الانتصار تجاوز ملعب سان سيرو، واخترق كل أدغال القارة الأفريقية، لتعلن أن هناك من أتى من تلك البراري ولديه القدرة على إعادة قراءة التاريخ من الجنوب إلى الشمال". ص 160-161.

"السنغال، المستعمرة الفرنسية الشهيرة، كانت ملكية خاصة لفرنسا طوال ثلاثمئة عام، احتفلت عام 2002 بعيد استقلالها الحقيقي، وذلك حينما هزمت فرنسا بطلة العالم 1-0، في بطولة كأس العالم في كوريا الجنوبية واليابان، لتتحرر من عبوديتها الأزلية". ص 21.

و"في تلك اللحظة استطاع الأفارقة أن يستعيدوا ذاكرتهم، تلك التي انتزعت منهم على مدى قرون. أدركوا أنهم الصيادون وليسوا الفريسة، وهناك في كوريا عادت للصياد مهارته، وأعلن بالرقص أنه لم يولد فريسة، بل ولد كما ولد أجداده: صياد". ص 23.

هذا الكتاب القيم النادر تأريخ لكرة القدم الأفريقية منذ النشأة الرسمية سنة 1957 حتى سنة 2017

عندما يلعب المضطهدون كرة القدم

"نحن في أفريقيا طوال الوقت نتحدث عن كرة القدم، لأننا لا نستطيع أن نتحدث في السياسة. نحن نختار الفرق التي نشجعها إلى أن نموت، لأننا لا نستطيع أن نختار رؤساءنا. نحن ننتقد بكل قسوة، وأحيانا بكل وقاحة حكام المباريات، لأنهم لا يملكون القدرة على أن يسجنونا. ولهذا نحن نعشق كرة القدم، لأنها تجعلنا نعيش".

هذا الكتاب القيم النادر تأريخ لكرة القدم الأفريقية منذ النشأة الرسمية سنة 1957 حتى سنة 2017. إنه كتاب آسر ساحر، لا تستطيع مفارقته حتى تصل إلى غايتك. يأخذك إلى أفريقيا السمراء المشرقة، يتجول بك في مدنها وقراها وغاباتها، يحدثك عن آلام وأحزان أهلها. يخبرك بما يدور في عقول الناس هناك وما يختلج في صدورهم، يحدثك عن أمانيهم وآمالهم. ينبئك بآهات الفقراء وحسرات المهمشين المضطهدين ويسلط الضوء على الغزاة المستعمرين. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.