شعار قسم مدونات

إصلاحيون بلا منهج..

أهدافنا وهواياتنا و أوقات الفراغ أيضا يجب التخطيط لها
التخطيط الجيد للعمل قبيل البدء به يُضيّق دائرة المخاطر بشكل كبير (شترستوك)

التفكير المنهجي هو الأقل كلفة والأكثر فائدة والأقرب إلى مظان الحقيقة، فهو التفكير المتسق مع مقتضيات الواقع ولوازم المنطق وأصول الحكمة. وقد تطورت مناهج العلوم مع تطور الأبحاث والاكتشافات التي توصّل إليها الإنسان في شتى العلوم النظرية والتجريبية، حتى تبلورت علوم واختصاصات مستقلة تحت مسمى "المنهجية" أو "علم المناهج".

الملمح المنهجي في التخطيط ورسم السياسات

إن من أهم ما يميز عملية رسم السياسات العامة والخطط الإستراتيجية في المجتمعات الصناعية المتقدمة هو انطباعها بطابع منهجي في التفكير أو التخطيط أو التنفيذ، وتكاد تكون هذه السمة نهجا دائبا لدى الأفراد والجماعات أيضا. أما لدى المجتمعات المتخلفة فإن أهم ما يميز سياساتها ومشاريعها التي تسمى "الإصلاحية" سواء في التعليم أو الاقتصاد أو الخدمات العامة، هو افتقارها لأي ملمح منهجي أو رؤية متبصرة أو تفكير شمولي، إذ إن أغلبها عبارة عن استجابات قهرية لضغوط خارجية، أو فرض لرؤية أحادية متغلبة، أو ردة فعل مستعجلة على احتجاجات متصاعدة، وهو ما جعل جهود الإصلاح مرتهنة بين منطق الارتجال والشعبوية.

"الطريق غير المنهجي هو أطول الطرق في عملية البناء الحضاري" مالك بن نبي

الوعي المنهجي وتجارب النهضة العربية

أكد المفكر الجزائري مالك بن نبي في العديد من مؤلفاته التي امتازت بالتحليل العميق والتشخيص الدقيق لأمراض العالم الإسلامي، بأننا نعاني أزمة "منهج" في التفكير والعمل، منوها بأهمية الوعي المنهجي في نجاعة الخطط التنموية، فهو القائل "الطريق غير المنهجي هو أطول الطرق في عملية البناء الحضاري". إن جهودنا التجديدية فيها "حسن النية" وليس فيها "رائحة منهج". والمنهج العلمي مصل واقي ضد مرض الثرثرة.

وفي تقييمه لتجربة رواد النهضة والتيارات الفكرية والدينية والسياسية التي تعاقبت على العالم العربي والإسلامي إبان القرنين الـ19 والـ20، كتيار القومية العربية وتيار الجامعة الإسلامية وتيار الرابطة العثمانية وتيار الإقليمية الوطنية، وجهود الحركات الإصلاحية والتحريرية، لا سيما الجزائرية منها؛ يرى مالك بن نبي "أن الجهود النهضوية وإن اتسمت في معظم الأحيان بالنية الصادقة والرغبة الملحة لتكسير قيود التخلف، إلا أن غياب الوعي بسنن التغيير لدى كل من رجال الإصلاح وتيار التحديث هو ما أدى إلى فشل المشروع النهضوي العربي، وذلك لأن أي اختلال في الوعي المنهجي، في أبعاده المعرفية والإجرائية والأخلاقية، سينعكس مباشرة على الوعي والأداء الثقافي، وهذه الانعكاسات السلبية المتتالية، تؤثر مجتمعة على مستوى الوعي والأداء الحضاري للفرد والمجتمع، وتدفع بأوضاع الأمة إلى المزيد من الضعف والتقهقر والاستعابات الحضارية المضادة". وفي هذا السياق يشير مالك بن نبي إلى أن "أعظم زيغنا وتنكبنا عن طريق التاريخ، أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا، ولعل أكبر أخطاء القادة أنهم يسقطون من حسابهم هذه الملاحظة الاجتماعية، ومن هنا تبدأ الكارثة ويخرج قطارنا عن الطريق حيث يسير خبط عشواء".

غياب الرؤية المنهجية والتخطيط المنظومي الشامل في البرامج الإصلاحية ورسم السياسات العامة له تكلفة باهظة على الإنسان والأوطان

تكلفة غياب الرؤية المنهجية في مشاريع الإصلاح

إن غياب الرؤية المنهجية والتخطيط المنظومي الشامل في البرامج الإصلاحية ورسم السياسات العامة له تكلفة باهظة على الإنسان والأوطان، وكمثال على ذلك؛ المشاريع التي تسمى عندنا في الجزائر بـ"الإصلاحات" سواء في التعليم والصحة والاقتصاد والسياسة وغيرها من القطاعات الإستراتيجية، فرغم طول مدة تجريب واختبار هذه "الإصلاحات" إلا أنها لم تفلح في إحداث التغيير المنشود، ولا تزال تلك القطاعات تعاني إخفاقات مزمنة بسبب غياب المنهجية السليمة والقدرة على الاستشراف المتبصر، والتخطيط الإستراتيجي المرتكز على قواعد فنية وتقنية ومعطيات واقعية ومنهجيات علمية، تراعى فيها خصوصيات البيئة والمجتمع ومتطلبات الحاضر والمستقبل، فأغلب هذه "الإصلاحات" استنزفت موارد مالية ضخمة من ميزانية الدولة بدون جدوى، وقد انتهى المطاف إلى إقرار إصلاحات جديدة على الإصلاحات القديمة أو ما سمي عندنا بـ"إصلاح الإصلاح"، وظلت الجهود والأموال تُستنزف في حلقة عدمية مفرغة من أي نجاعة أو فعالية.

إن من لوازم غياب التفكير المنهجي في سياساتنا العامة هو اعتماد الحلول السريعة والسهلة، التي دأب النقاد على تسميتها "الحلول الترقيعية" التي تأتي في غالبيتها كردة فعل على ضغوطات ومطالبات مجتمعية، أو مسايرة لوضع قائم، فتفضي إلى إضاعة الكثير من الوقت والجهد والمال بدون تحقيق الأهداف المتوخاة، نظرا لغياب الملمح المنهجي في التخطيط والاستشراف، فتستنزف الموارد المالية والمادية والبشرية في طريق طويل وشاق ومحفوف بالمكاره، على حساب الزمن والأرض والإنسان وحق الأجيال القادمة في الرفاه والازدهار.

مرتكزات الوعي المنهجي

إن توطين الوعي المنهجي كثقافة مجتمعية ومسلك بيداغوجي في التخطيط للمستقبل ورسم السياسات وهندسة الإستراتيجيات، يستدعي توجها مؤسسيا قائما على المرتكزات التالية:

  • إنشاء مراصد الفكر والاستشراف:

وهي مراصد تضطلع بمهمة "توليد الأفكار" و"الاستشراف المستقبلي" ودراسة الخطط والسياسات، فمهمتها ذات بعد إستراتيجي، بحيث تقدم الرأي العلمي والتغذية الراجعة للهيئات الرسمية، وتساهم بصفة فعالة في تقييم وتقويم السياسات السابقة والتجارب التاريخية ومعالجة اختلالاتها ورسم منظور عملي للتنمية المستدامة، ودراسة سبل الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة في شتى القطاعات الإستراتيجية.

  • إشراك الجامعات في عملية رسم السياسات:

من خلال دمج الجامعات في محيطها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والاستفادة من توصيات الملتقيات والدراسات العلمية، ووضع قنوات رسمية بين الجامعات والمراصد الفكرية لتفعيل العمل البيني وتطوير الأفكار وتحويل التوصيات إلى سياسات قابلة للتطبيق.

  • تمكين العلماء وتطوير البحث العلمي:

فلا بد من وجود إرادة سياسية صادقة لإعادة الاعتبار للعلماء كقيمة مطلقة في معادلة البناء الحضاري، وإشراك رجال الأعمال والمؤسسات الاقتصادية في تمويل مشاريع البحث العلمي ومراكز البحث على غرار الدول الرائدة، والاهتمام بتنظيم مسابقات تنافسية لاستثارة همة الباحثين وتحفيزهم على الإبداع، واستخلاص الأفكار ذات القيمة والجودة العلمية.

  • تخطيط سياسات جاذبة للحد من هجرة الكفاءات:

من خلال تحسين مناخ البحث العلمي وإغناء البيئة الوظيفية والاجتماعية للباحثين عبر إرساء معايير جودة الحياة الوظيفية والأكاديمية، وزيادة وترشيد الإنفاق على البحث العلمي، وترسيخ قيم الحرية الأكاديمية واستقلالية الجامعات، وتوطيد التواصل البنّاء بينها وبين المؤسسات الاقتصادية والصناعية، والاستثمار في مخرجات البحث العلمي.

  • إعادة مراجعة المنظومة التعليمية:

بالعمل على تطوير المناهج و"بيداغوجيات*" التدريس وتخليصها من النزعة التكديسية، وتركيز المناهج على تنمية قدرة العقل على التفكير الابتكاري والتحليل المنهجي والنقد العلمي.

* البيداغوجيات: في الاطلاق العام هي المناهج اما في مجال التدريس فيقصد بها طرائق التدريس واصل الكلمة من مصدر اليوناني pédagoge ويعني الرجل الذي كان يرافق الاطفال للمدرسة وكان يراجعهم ما درسوه في القسم بطريقة أيسر وأقرب لذهن المتعلم

المراجع:

  • محمد العاطف، معوقات النهضة وطرق علاجها في فكر مالك بن نبي. رسالة ماجستير، قسم الفلسفة، كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة الجزائر، 2007-2008، ص49.
  • مالك بن نبي، شروط النهضة. دمشق: دار الفكر، 1986، ص47.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.