"العطاوية" المنسية.. ذكريات البحث عن الماء والتعليم

يقطع الأطفال مسافات بعيدة على الدواب لجلب المياه (الأناضول)

ككل مناطق الريف اليمني تقريبا، المثخن بالعناء والحرمان، تقبع منطقة (عزلة) العطاوية، بقراها العديدة، إلى الشرق من مدينة الزيدية بمحافظة الحُديدة، وتحاذي بعض سهولها جبال ملحان التابعة لمحافظة المحويت.

ليس للعطاوية من عوامل العطاء والحياة سوى رحمة الله التي تتجسد في الأمطار الموسمية، تحيل معها الأرض إلى بساط أخضر، إلى جانب نفوس أهلها البسطاء الطيبين والمعدمين معا، في واقع سياسي كرّس القوة لعقود كأحد العوامل لانتزاع الحقوق، تحولت معه الطيبة إلى نقمة، حينما جعلت "التهاميين" محرومين من أبسط حقوقهم الأساسية كالتعليم والصحة والكهرباء والطريق.

استذكرتُ العطاوية، مسقط رأسي ومراتع صباي ولن أنساها رغم غيابي عنها منذ نحو 10 سنوات، وكيف أنسى أمي وقبر أبي، وأهلي الذين ما زالوا يكابدون واقعهم هناك، بعد أن تضاعفت معاناتهم اليومية أكثر من ذي قبل، بفعل حال اليمن عموما، وانعكاسات الحرب والغلاء وتفشي الأمراض والمجاعة والمليشيات.

ولعل هذا الحنين مرده ما عبّر عنه الشاعر بقوله:

بلاد ألفناها على كل حالة .. وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن!

وتستعذب الأرض التي لا هواء بها .. ولا ماؤها عذب ولكنها وطن!

وهو واقع بات معه الريفي في ضيق من أمره ولا إيجابية في ذلك سوى عدم اتكائه على الدولة أصلا منذ أن وجد نفسه على هذه الأرض، ولا يرى من سلطتها سوى مندوب الزكاة الذي يلاحقه، ليقاسمه محاصيل ما جناه من زراعة الأرض بكده وعرق جبينه، أو في فترات الانتخابات السابقة حينما يتودد إليه المرشحون لكسب صوته، رغم ما يعانيه من غرامات مالية "تأديبية" في كثير من الأحيان، تحت ذرائع الصلح في حال النزاع القبلي مثلا.

ورغم كل ذلك الواقع التي تعيشه العطاوية، إلا أن حنيني لزيارتها جارف، لعلي أقف عن قرب على ذكريات الطفولة، ابتداء من رعي الأغنام وحراثة الأرض وجلب الماء من البئر بالدلو، وصولا إلى قصة رحلتي الدراسية في سنواتها الأولى وتشبثي بالتعليم سيرا على الأقدام لمسافة ساعتين ذهابا وإيابا إلى المدرسة في قرية سويدان المجاورة لقريتي "محل الكُبيح" أو الهيجة كاسم عام لها، أو الدراسة تحت الأشجار في بعض الأحيان، وكلها عوامل تجسد مشقة يومية لا يصمد أمامها في طلب التعليم إلا القليل جدا، لبعد المسافة وانعدام وسائل المواصلات وقلة ذات اليد، ما يتسبب في عزوف الطلبة عن الدراسة، مكرهين ومضطرين للعمل والغربة خاصة، بحثا عن لقمة العيش لإعالة أسرهم أو بسبب زواجهم المبكر المتفشي في الأرياف بشكل كبير، أو بسبب انشغال الأطفال في سن مبكرة برعي ما لدى أهلهم من المواشي كالأغنام والضأن، أو بجلب الماء من قرى بعيدة من خلال السير لمسافات على الدواب "الحمير" التي تعد الوسيلة الوحيدة التي يستخدمها معظم سكان الريف لنقل المياه إلى منازلهم عدة مرات في اليوم الواحد أحيانا.

إعلان

وفي هذا الصدد تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف"، "هناك أكثر من 16 مليون شخص باليمن، بما في ذلك 8.47 ملايين طفل، يحتاج بشكل عاجل إلى المساعدة للوصول إلى خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة العامة، وإلا فهم معرضون لخطر متزايد من سوء التغذية والظروف الأخرى التي تهدد حياتهم"، وفق ما نقلته وكالة الأناضول.

يضاف إلى ذلك، غياب تعليم الفتيات وصعوبته لأسباب عديدة، قد تتناولها تدوينة لاحقة، فضلا عن ضعف التعليم الريفي عموما، وقلة مدرسي المواد العلمية واللغة الإنجليزية، وإغلاق بعض المدارس لاحقا، وغياب الكهرباء التي دفعتنا على مذاكرة الدروس على ضوء المصباح التقليدي "الفانوس"، إلى جانب معاناة السكان هناك من غياب وتردي الخدمات الطبية، في ريف يحضر صورا شاعرية في موسم الأمطار ويحيل حياة الناس إلى جحيم بقية فصول العام.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان