أزمعت الحكومة السورية إقامة تابوت على قبر أبي العلاء بقريته معرة النعمان، وذلك ضمن فعاليات الاحتفال بانقضاء 100 عام على سنة مولده، فرأى الأستاذ العقاد في ذلك فرصة للحديث عنه في فصول كتبها في صحيفة البلاغ، ثم جمعها في كتاب أسماه "رجعة أبي العلاء" وأضاف إليه 4 فصول لم ينشرها من قبل، لتبلغ 22 فصلًا، وقد أفصح في مفتتح كتابه عن غايته من هذه الفصول:
"فخطر لنا أن أبا العلاء قد دُعي من حظيرة الخلود إلى شهود ذكراه، وأن الأمد لا يزال فسيحًا بيننا وبين ذلك اليوم المشهود، ففي ذلك الأمد متسع لرحلة علائية حول الكرة الأرضية، يرى فيها ما يعنينا أن يراه، ويقول فيها ما ينبغي أن يقول".
ونهض المعري من مجثمه ليجد في انتظاره رسول وفد الحكومة السورية الذي جاء يحمل إليه قرار التكريم، وانطلق معه يجوس في مشارق الأرض ومغاربها، في رحلة ماتعة طريفة، أبدى فيها المعري رأيه في الحياة والأحياء.
والرحلة على هذا النسق ليست جديدة في الأدب العربي، فقد نسج فيها العقاد على منوال "رسالة الغفران" للمعري، و"التوابع والزوابع" لابن شهيد الأندلسي، و"حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي، ولكن ما امتاز به كتابه أنه حاول الغوص في مطاوي نفس أبي العلاء، ولم يقنع بالنظرة السطحية العجلى لعرض أفكاره، وإن كان العقاد لم يكشف لنا عن جديد في حياة المعري وفكره؛ إذ كانت عمدته في عرض أفكار المعري لزومياته المنشورة، إلا أنه استنطق أبياته التي نعرفها وكشف من وجوه الفكر فيها ما لا يبدو للقارئ باديَ الرأي، وفي نظري أن خير من يكشف لك عن نفسية أديب شاعر هو ما يكتبه عنه أديب شاعر مثله، فعندئذ تجد من اللذة والمتاع والعلم والفائدة ما لا تجده عند غيره.
ولكن هل حقًّا كانت تلك الآراء التي فاضت بها فصول الكتاب هي آراء المعري ونظراته أم إنها آراء العقاد ونظراته؟ لقد بحثت في الكتاب عن المعري فلم أجد إلا العقاد الذي حاول أن ينتصر لرأيه بأبيات المعري ولزومياته، وقد قرأت رأيا لطه حسين كتبه في مقالة له في "فصول في الأدب والنقد" تعليقًا على الكتاب، يقول فيه "فقد أراد العقاد أن يعطينا صورة من أبي العلاء لو عاش في هذا العصر؛ فأعطانا صورة من الأستاذ العقاد الذي يعيش في هذا العصر".
ثم ما الذي نجده من الغناء والفائدة في كتاب يبدي الكاتب فيه آراءه في دعوات ومواقف انقضى عليها 80 عامًا تقريبًا (خرجت الطبعة الأولى من الكتاب 1937)؟
إن هذا السؤال يثير الإشكالية الأولى التي برزت لي وأنا أقرأ فصول الكتاب، وهي: هل معيار خلود كاتب أو أديب أو شاعر أو مبدع هو قدرة آرائه على حل مشكلات لم تظهر في وقته؟ أو بالأحرى هل هي لياقة آرائه في أن تعبر القرون وتجتاز العصور لتقدّم إجابات عن أسئلة لم يفرزها عصر الكاتب وزمانه؟ أم إن قدرة المبدع على تقديم إجابات وافية لمشكلات عصره هي القسطاس الذي يوزن به خلود الكاتب؟ إن التعسف في استحضار إجابات الأقدمين لتقدم حلولًا لمشكلاتنا العصرية يزيد مشكلاتنا تعقيدًا من ناحية، ويبخس حق أولئك المبدعين من ناحية أخرى، ويحتدم الجدل حول شخصيات مبدعة في زمانها أبى استحضارها في زماننا إلا أن يثير حولها زوبعات من الجدل والاختلاف الشديد، كما حدث مع المعري وابن تيمية وابن حزم وابن عربي والشاطبي وابن خلدون وغيرهم كثير.
ولكني مع هذا أجد أن كثيرًا من المواقف والمشكلات والدعوات التي أبدى فيها العقاد آراءه على لسان المعري ما زالت ممتدة منتعشة وإن تغيرت بعض ملامحها دون أصولها، ففي فصول الكتاب حديث عن أنظمة الحكم العسكري والديمقراطي، والدعوات العنصرية، وقضايا المرأة والنظرة إليها، والموازنة بين بعض المذاهب الفلسفية، والموازنة بين الاستقلال والتبعية في حياة الشعوب، وحديث عن بعض القضايا الإنسانية والأخلاقية من مثل: الشجاعة والزهد والتسامح والخلود والفناء، ولست أبالغ إذا قلت إننا نجد في الكتاب زادًا مشبعًا من الرأي في هذه القضايا لا نجد مثله في كتابات حديثة يعوزها العمق والجدية.
أما الإشكالية الثانية التي عرضت لي وأنا أقرأ فصول الكتاب فهي مدى قدرة الشعر على أن يكون وعاء للقضايا الفكرية العميقة المعقدة، ومدى قدرتنا على استنطاق الشعر ليبوح لنا بكمين الرأي في حياة الشاعر، فالشعر أدواته العاطفة والخيال والرمز والصورة، ولا يمكن أن نعدّ تلك الإشارات الخاطفة السريعة كاشفة عن بناء فكري راسخ يمكن أن ننسبه للشاعر إلا بتعسف ظاهر ومبالغة غير محمودة.
والعقاد في فصوله يفجؤك ببعض النتائج التي تكدّر ما استقر عليه المؤرخون والأدباء معًا في شأن أبي العلاء، فهو يصرّح في جرأة أن المعري كان توّاقًا إلى المجد الدنيوي، وكان حبه له نزعة مكبوتة في ضميره كانت تبديها فلتات شعره ونثره، كما أن ما دفعه إلى الاستغراق في دراسة أصول الأشياء هو عماه وانصرافه عن الدراسات الأخرى، ولو كان بصيرًا ما فعل!
والكتاب بعد هذا ممتع لذّ، حقيق بالمطالعة شأن آثار العقاد جميعها، التي قال عنها طه حسين "ورأيي في الأستاذ العقاد وفي آثاره الأدبية والفلسفية معروف، فهو من هؤلاء الأدباء الذين لا يقرؤون لقطع الوقت، ولا يستعان بهم على احتمال الفراغ، وإنما يقرؤون لالتماس الفائدة واكتساب العلم واجتلاب المتعة".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.