كباقي مناطق وجهات المغرب الأقصى، ساهمت قرى وحواضر الشرق في مختلف مسارات المغرب الثقافية والسياسية والدينية والجهادية والروحية منذ قرون، بما أنتجت من رجال ونساء أبوا إلا أن يتركوا أثرهم في جدار العبقرية المغربية، كل من مجاله وفي نطاق نبوغه وتميزه.
ولئن كانت فاس ومراكش وتطوان وتافيلالت وسوس ذهبت بالنصيب الأوفر في المسار الحضاري للمغرب، وتوجهت إليها أنظار الباحثين والمحققين والمختصين يستجلون أدوار مشاهير رجالاتها؛ فإن الشرق الأقصى زاخر كذلك بالعلماء والقضاة والنبهاء والخطباء والمقاومين الذين يحق لهم الفخر بما أنجزوا، وللسلف منهم على الخلف واجب البرور والصلة والتعريف.
ومن بين أولئك الأفذاذ الذين أضاؤوا عتمات الشرق وأوقدوا شموع العمل والإنجاز، مترجَمنا العلامة عبد الرحمن الميري الوجدي، سلسل آل ميري الشرفاء العلماء، وابن القاضي النزيه والعلامة الفقيه محمد بن الهاشمي الميري.
يرجع الشيخ عبد الرحمن بأصوله إلى آل البيت الكرام، وبالأخص إلى سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. توافدت عائلته ضمن الموجات العربية التي توطنت المغرب الأقصى، ونزلت عند بوابته، وجدة الوقورة.
ولد عبد الرحمن بن محمد بن الهاشمي الميري سنة 1856، وقيل 1858، فتربى في بيت علم وتصوف وسمعة طيبة، وعلى يد والده القاضي محمد الميري تلقى أصول العلوم العربية والشرعية، والتزكية الروحية أيضا، فجالس أباه في حلقات الدرس والتحصيل بالجامع الكبير الذي كان يدرس به لسنوات إلى غاية مماته في 1893، وفق ما أورد الباحث بدر المقري في مقاله "ذاكرة مدينة وجدة المعرفية".
ثم جاءت مرحلة تعميق التحصيل العلمي، فانتقل الشاب عبد الرحمن إلى القرويين، ليدرس على أقطاب الفقه والحديث واللغة، وليكرع من معين أمهات المصادر والمراجع. ولم تكن سنوات التعلم بالقرويين بالتي تشبع نهم ابن الميري وتطلعاته رغم ما عرف عن نظام التعليم بالقرويين من جودة وجدة، فانتقل إلى حاضرة السمارة بالصحراء المغربية، طالبا ومريدا لدى الشيخ ماء العينين بن الفاضل الذي كان له الدور الأكبر في تلقين التهذيب الروحي والتزكية الصوفية والتمسك بالله وبالأوراد للطالب عبد الرحمن، وبعد قضاء ما شاء الله من السنوات هناك؛ أجازه الشيخ ماء العينين في بعض العلوم وفي الطريقة القادرية المعينية.
بعد العودة إلى وجدة، مارس الشيخ ابن الميري الوعظ والتدريس، وألحت عليه تربيته الصوفية توطين النزعة الروحية الصوفية في المنطقة الشرقية، فأرسل إلى الشيخ ماء العينين يستأذنه في نشر طريقته "الطريقة الفاضلية المعينية"، وتأسيس زاوية في وجدة، فتم له ذلك سنة 1903 بموجب موافقة مكتوبة من لدن الشيخ، موجودة في حوزة أبناء الشيخ العلامة الميري إلى يومنا هذا. (انظر: www.cheikh-maelainin.com).
لاحقا، دعم الشيخ ماء العينين الزاوية بخزانة كتب من بينها إنتاجات بخط يده أرسلها بكل عناية مع تلميذه النجيب التهامي بن أحمد، فيما يفيد رعاية حاسة العلم من لدن الأشياخ وإيمانهم بما للدور العلمي والفقهي من مكانة وأهمية -إلى جانب الدور التربوي والاجتماعي لزوايا مغرب ما قبل الحماية- إلى جانب دورها في الجهاد والمقاومة.
فأن تؤسس زاوية على رأسها عالم كبير خريج القرويين وصفه الشيخ ماء العينين بـ"الأديب الأريب اللبيب، النبيه النزيه، النسيب الحسيب" في قلب حاضرة الشرق، معناه إعطاء الزاوية كبير التقدير والتوقير من لدن العامة والنخبة. لذا؛ فما إن توطدت صلات الناس بزاويتهم الجديدة، حتى كثر مريدوها، ومتلقو العلم والأوراد فيها، وصارت منذ مطالع القرن العشرين تسهم في نشر العلم، وتأطير الطلبة، واحتضان الفقراء، وتعزيز الثوابت المذهبية والدينية للملكة الشريفة في الجهة الشرقية.
ولما كانت مدينة وجدة على مرمى حجر من الجارة الجزائر التي ابتليت بمحنة الاحتلال منذ 1830؛ فقد كان رذاذ تقلبات الأحوال يغطي على سماء وجدة، فتتأثر العامة كما النخبة بها. وحينما حلّ الاستعمار البغيض فوق أراضينا، من بوابة وجدة، للقضاء على القواعد الخلفية للمقاومة الجزائرية، عايش الشيخ عبد الرحمن دخول طوابير الجيش الفرنسي إلى المدينة بقيادة المارشال ليوطي يوم 24 مارس/آذار 1907، بعد نضال مستميت ومقاومة كبيرة من لدن قبائل بني يزناسن والعلماء والساكنة.
كان لهذا الحدث وقع الصدمة على نفسية الشيخ وأتباع الزاوية، فجد في التقرب إلى الله بالدعاء وتقوية صلة الناس بدينهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم واللهج إليه بالدعاء لرفع الغمة الاستعمارية ونصر الأمة المغربية، انطلاقا من مقر الزاوية بزنقة القاضي بمدينة وجدة التي كان عليها -أي الزاوية- أن ترتفع إلى مستوى اللحظة التاريخية، للتحسيس بمخاطر الاحتلال وتهديده للعقيدة والدين، وللإسهام في الحفاظ على معتقد العامة وتدينهم وقدرتهم على الانتصار على عدوهم.
ولا نعلم لا القليل ولا الكثير عن طبيعة العلاقة التي كانت للشيخ بممثلي السلطان ولا بممثلي الإقامة العامة الفرنسية بوجدة، كما لا نعثر على مصادر ومراجع -في حدود ما بحثنا- تفيدنا بمعطيات عن مجريات حياة الشيخ، غير ما نستخلصه من عمره العريض الذي عايش فيه أحداثا جساما، وتوالي سلاطين متعددين على حكم المغرب، حيث عاصر طرفا من عهد السلطان محمد بن عبد الرحمن، ومدة حكم السلطان الحسن الأول بتمامها، فمرحلتي المولى عبد العزيز ثم أخيه عبد الحفيظ، والمولى يوسف بتمامها، وسنوات من مرحلة حكم السلطان محمد الخامس، وعاصر الثورة الريفية التي جرت وقائعها قريبا من الجهة الشرقية، فشطرا من ثورة موحا أحمو الزياني، وكانت أصداء كلا الثورتين العظيمتين تصلان أطراف المغرب العميق، وتؤثر في طلائع الشباب، ولا سيما أولئك الذين سيكونون أعمدة الحركة الوطنية بداية من ثلاثينيات القرن العشرين.
لكن ما يعلم نقلا عن شهادات الرواة، وما هو مبثوث في بعض المقالات؛ أن زاوية الشيخ عبد الرحمن الميري ساهمت بجهود محمودة للحفاظ على نقاوة الاعتقاد السني والتربية الصوفية والصلاح والاستقامة في صفوف الأتباع والمريدين وعامة القاصدين، ولعبت دورا مهما في دعم الفكر الوطني المقاوم إلى جانب الحركات الكفاحية والدعوات الإصلاحية التي شهدها الطور الأول من مرحلة الحماية الفرنسية والإسبانية، وناهضت الاستعمار ببث نفس المقاومة التزكوية بتعبير الدكتور طه عبد الرحمن في "روح الدين؛ من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية"، ولم يكن هذا بالبعيد عنها، وهي التي ورثت روح النضال وثقافة المقاومة بالذكر والفكر عن الطريقة الفاضلية التي كان لها دور فعال في التأطير الديني والجهاد ضد الغازي المحتل في الأقاليم الصحراوية للبلاد مع أكبر رموزها العلامة الفاضل بن مامين، وولده الشيخ ماء العينين بن الفاضل، ثم الشيخ محمد الأغضف، والشيخ العبادلة، وأعيان آخرين من العلماء والمجاهدين والصلحاء، والتي بدورها نهلت من الطريقة القادرية، التي انتشرت في بلاد شنقيط وكافة التراب المغربي، كما التقت زاوية الشيخ الميري الوجدي مع الطريقة الشاذلية والطريقة التيجانية في كثير من المناحي. (انظر: "لمحات من الطريقة الفاضلية القادرية"، للباحث ماء العينين عتيق). كما كان يتلى في زاوية الشيخ عبد الرحمن الورد القادري المعيني الذي عده الشيخ ماء العينين بأنه "من أجلّ الأوراد قدرا، وأوفرها ذخرا، وأعلاها ذكرا"، (انظر: دعوة الحق، العدد 202، وذلك طوال عقود من وجودها في وجدة).
وفي السياق الحالي، ما تزال الزاوية تقوم بوظائفها الروحية، وفي إحياء يوم المولد النبوي الشريف، والاحتفاء ببعض المناسبات الوطنية والدينية، كما تشهد إقبالا كثيفا من لدن ساكنة الجهة الشرقية وكثير من أتباع الزاوية المعينية في السمارة والأقاليم الصحراوية، وفي رحابها تأسست جمعية للمديح تسمى "الجمعية الفاضلية للمديح والسماع بوجدة"، سنة 2020. وما زالت على نفس نهج مؤسسها في دعم العمل الإنساني والاجتماعي وتقدير العلم ونفائس المصنفات.
وافت المنية الشيخ الجليل العالم العامل الصوفي الأصيل عبد الرحمن الميري سنة 1932، فورثه ولده العالم النجيب محمد فاضل الميري في تدبير شؤون الزاوية في لحظة عصيبة من لحظات نضالات المغاربة للانفكاك من ربقة الاستعمار وعملياته الإجرامية التي استهدفت الأدوار الدينية والاجتماعية للزوايا، والتضييق على العلماء، واستمالة بعضهم، وآلت إلى الأحفاد من آل الميري يدبرون شؤونها ويقومون حاليا على أمورها.
مصادر ومراجع
- (عبد الرحمن) طه: "روح الدين؛ من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2012.
- مجلة "دعوة الحق"، العدد 202.
- الموقع الإلكتروني لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية (habous.gov.ma).
- الموقع الإلكتروني للشيخ ماء العينين بن فاضل (www.cheikh-maelainin.com).
- (المقري) بدر: مقال "ذاكرة مدينة وجدة المعرفية"، بالموقع الإلكتروني (oujdacity.net).