على ضوء ما حل بنا من غياب التوفيق في دخول الحي بعد تصدي الجنود لنا، سرت وصديقي "محمود" على الأقدام اتجاه المسجد الأقصى المبارك الذي كان على بعد ما يقارب من 20 دقيقة مشيا من حي الشيخ جراح. بدا في الطريق أن كلينا رضي بالصمت. أطرقت ذاك الحين في تفكير عميق عمّا سبق وحدث، محاولا إيجاد سبب تتصبر به النفس على مجريات الأمور. أراجع الموقف مرارا وأنا موغل في حيرتي، أحمل همّ إخفاق لم أحسب له حسابا. لقد فوجئت فعلا بالحقيقة، ليس من كم القوة التي أوعزت للجنود إيقافنا دون غايتنا، فهذا كان سابق المعرفة عندي، ولكنه كان لقائي الأول مع الحقيقة المجردة للضعف الذي كنا فيه بحيث أُرغمنا -على مضض- أن نذعن لقرار المنع. لم يكن هذا الشعور رائجا لدينا، نحن أبناء الجليل الوادع البعيد عن واقع الحواجز العسكرية والجنود الآتين من مشارق الأرض ومغاربها لحراستهم. لقد جعلني هذا الموقف أكوّن فكرة جديدة بناء على هذه التجربة عن واقع الحال في القدس وما يمر به ويعانيه أهلها. نعم، لقد ترعرعنا على روايات البطولة ونشأنا نلقي السمع لوصايا الكبار بعدم الرضوخ، وارتوت أفئدتنا من شراب العزة الذي استقيناه من بطون الكتب.
إلا أن الكلام إذ تلقيناه حينها في ألبابنا وصدورنا حويناه مع لمسة من خيال، لأننا ما رأيناه واقعا ولا عايشناه حالا، الأمر الذي جعل صدمتي من حقيقة قبول كلام الجنود أقسى علي وأشد. تصنعت الثبات وأنا أسير في شوارع القدس، ورغبة عارمة بالاستسلام تزداد في داخلي. ملقيا بصري على البنايات العتيقة، تلك البنايات التي شيدت في أزمان سبقت هذا الظلم والهوان، ربما شهدت عساكر الشام يوما تسير في شوارعها وأزقتها بقناديل الزيت تتفقد أحوال أم المدن، من يدري فعلا كم صحابي عبر ذات الشارع الذي أعبره؟ شارع عرف العرب والمماليك والسلاجقة والأيوبيين والعثمانيين، من يدري فعلا لو قدر على النطق ماذا كان سيخبرني؟
لعلّي في فورة الغضب صارعت أولئك الجنود في مخيلتي مرات ومرات، وأرغمت أنوفهم في إسفلت القدس مرة تعقب أختها، كذلك يفعل الخيال بصاحبه إذا خذله الواقع، إن لم يشفه من مصابه فإنه يسكن -على الأقل- بعض روعه. كانت رؤية حالهم تزيدني أسفا فوق أسفي الذي أتيت محملا به من قريتي الهادئة البعيدة. أهؤلاء الأراعن يجدون دولة تمدهم بسلاح ومنصب وهم أهل الجبن وأقوامه الغارقين في الباطل الفارغين من أي انتماء تجاه الأرض وما حملته فوق أديمها من بشر وشجر وحجر، وأنا ومثلي ألوف لا نجد دولة تمدنا بشيء ونحن على الحق؟ لا أعجب من أي يكون مثل هذا الشعور بالخذلان مستقرا في وجدان كل فلسطيني، خصوصا أولئك الذين يعانون من حياة زاخرة بالحواجز العسكرية المصبحين والممسين وهم يرون الرشاشات على أكتاف الجنود. عشت لأجد القدس تتحول من عنوان إليه تسير المواكب والكتائب إلى مجرد عنوان له تؤلف الأناشيد وعنه تروى القصص. كم شهيد جاد بدمائه هنا لكي يعيش أمل الحرية؟! وكم من أسير باع رفاهية الحرية ليصون ماء وجه هذه الأمة؟! وكم من قرية وبلد وسرية وفرد رحبوا بالصدام على غير جاهزية عوضا عن الرضوخ المذل لمجرد إبقاء جذوة الأمل مستعرة في قلوب الشعوب؟!
يحاول محمود أن يهدئ من روعي قائلا "إن الإنسان ليس مطالبا فوق ما يطيق". وقد صدق، ولكن الخيبة كانت أكبر من يداويها الكلام وإن كان برئ من الخطأ. فقد كنت أجد في نفسي شعورا مريرا بالإخفاق، مصحوبا بشك أخذت تترتب في نفسي حروفه "لعلي لست أهلا لهذا المرتقى". وبالرغم من عدم تكافؤ الكفتين لم أقبل بالمسكنات النفسية، ولم أكن ممن يحب البحث عن الأعذار، لقد جئنا في مهمة لم نوفق لها، وهذا ما كان.
أثناء سيرنا الذي امتد إلى ما يشبه الأبدية، صدح في آذاننا صوت كأنه آت من الماوراء، لحن حزين عابر للعوالم كأنه ينزل من اللوح المحفوظ إلى الأرض ساعته الأولى، ليدفع عن النفس ما كبلها من يأس ويمسح عنها ما لطخها من الحزن، مهديا إياها تربيتة على الظهر ومرشدا إياها إلى ملجأ يحتويها، أو يدلها على كهف تأوي إليه إن شئت. هكذا جاءنا صوت أذان العصر، مرفوعا من مئذنة قريبة انتشلتني من سوداوية أفكاري، رافعة راية بيضاء علامة للهدنة بيني وبين نفسي اللوامة، فقد كنت أرى حتى ذلك الحين أن الإخفاق مني وإلي، فالتوفيق توفيق الله يؤتيه من يشاء من عباده وما كان حرماني إياه إلا لأني لست أهله. نظرت إلى جانب الطريق لأجد شارة خضراء فيها من مظهر البساطة ما فيها من راحة في المعنى، على ارتفاع لا يزيد على 3 أمتار عن سطح إسفلت القدس الحار في ذلك الوقت من السنة، كُتب عليها "مسجد الشيخ جراح". نظرت إلى محمود لأول مرة مذ انكفأ كل منا على نفسه، نظرة تغني عن الكلام، كان مفادها "أندخل؟"، ولم يلبث أن هز برأسه موافقا، فعقدنا النية على الدخول، وهكذا كان.
لم نقض داخل مسجد الحي سوى دقائق يسيرة، بيد أنها كانت ثمينة على قصرها، وجدت فيها تعويضا -ولو بسيطا- عن حادثة الحاجز والجنود. نظرت يمنة داخل المسجد ويسرة لأجد الناس في المسجد في سكينة تامة أو شبه تامة. بعضهم قائم يصلي وآخرون يتصفحون القرآن، وغيرهم أسندوا ظهورهم لحائط المسجد وأغلقوا عيونهم يسبحون ربهم بعيدا عن هذا العالم، أهل القدس، أهل المعاناة اليومية عرفوا السر ولجؤوا إلى كهفهم يبتغون رحمة ربهم. توضأت وغبت في صلاتي أنا الآخر، تاركا نفسي وهمي في يده لا إله إلا هو. أما دبر الصلاة فقد كان أحد تلك الأوقات التي يتجلى فيها للمرء ضعفه عن صياغة ما شاء الدعاء به كلاما، واللغة على اتساع أقطارها وقفت عاجزة أمام القلب وما استقر فيه من الرجاء، رجاء مزج بشك في النفس نجم عنهما صمت تام للسان وضجيج صاخب في القلب، ثم انطلقنا.
ربما تكون من أهل القراءة الذين يستأنسون بكتب التراث والتاريخ، ولعلك ساعة عبورك في رحاب تلك الكتب تطلق لخيالك عنانه، فترى ابن مسعود على قمة نخلة في يثرب، أو أبا حفص عند الكعبة يوبخ طواغيت الشرك أو ربما رأيت أبا ذر الغفاري يسير في مكة متوجسا يبحث عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ليصادف علي بن أبي طالب فيصبح بعدئذ رابع المسلمين أو خامسهم، أو صلاح الدين وهو يطرد الإفرنج من بيت المقدس. وهذا من مجرد التصفح، فكيف لو وقفتَ أمام باب العمود؟ هذا الصرح التاريخي الأشم الذي وقف ترسا في وجه الغزاة قرونا وسنين. عندما تقف وجها إلى وجه أمام السور ستجد في قلبك شيئا يخذلك لسانك عن ترجمته، المكان برمته آسر للقلب والعين، لقد زرته مرارا قبل ذلك ولكنني أزوره فعلا للمرة الأولى. بعد أن تعبر نقطة التفتيش ستصل إلى سوق البلدة القديمة، لن تستطيع أن تصم أذنيك عن أصوات الباعة والتجار، الكل في هذا المكان يغالب الحياة طلبا للرزق، الجنود ورجال الشرطة متفرقون عند كل زاوية، ولكنهم لا يخيفون أحدا، هنا ترى عنفوان المقدسيين متجسدا في أصواتهم العالية ولسانهم العربي الشامي الفلسطيني يعرضون بضاعتهم للمارة ترافقها الابتسامات والدعوات. طفل يمسك يد أمه يحاول الشرطي أن يستميله بابتسامة، فيشتمه الطفل بلسان مقدسي لا يعرف التأتأة "اقلب وجهك بعيد". لينقلب وجه الشرطي فعلا من ابتسامة ماكرة إلى نظرة غضب، هكذا رحبت بنا البلدة القديمة، بأهلها وباعتها وجدرانها ومقاومة أهلها.