البروفيسور وائل حلاق باحث فلسطيني الأصل، كندي الجنسية، مسيحيّ الديانة، متخصص بالقانون وتاريخ الفكر الإسلامي، يعمل كأستاذ علوم اجتماعية في جامعة كولومبيا، بقسم دراسات الشرق الأوسط. وفي سنة 2014 صدرت عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، الطبعة العربية لكتابه "الدولة المستحيلة" بترجمة عمرو عثمان، وقد أثار هذا الكتاب العديد من النقاشات والآراء.
نتساءل عن المعنى الذي يحمله العنوان، وقدْ يستفز الكثيرين منا أن نقرأ في صفحات الكتاب الأولى قول المؤلف: "مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة"، إذ تبدو هذه العبارة للوهلة الأولى تشكيكا في أهلية التشريع الإسلامي لمواكبة قضايا السياسة وبناء الدولة. ولكنا ما إن نمضي شوطاً في قراءة الكتاب، حتى نكتشف أن المراد بما قيل شيءٌ آخر، وأن الكلام فيه ما يُعرف في لغة الأدب باسم: المدح بما يشبه الذم.
وقد اقتضى الطرح الذي أراد الكاتب تقديمه أن يقف مطولا لإيضاح الأسس التي قامت عليها الدولة الحديثة، والعوامل التي رافقت نشأتها وشكلت هويتها. فقد جرت في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تحولات نموذجية أثرت عليها النقلات السريعة في اقتصاداتها وتقنياتها ومجتمعاتها، وبُناها السياسيّة والمعرفية. وبذلك كانت أوروبا تقريباً المعمل الوحيد الذي صُنعت فيه الدولة الحديثة أول ما صنعت، وفيها قامت فكرة سيادة الدولة، التي تعتبر الأمة التي تجسد الدولة هي وحدها صاحبة إرادتها ومصيرها، وأُعطيت السيادة صفات تقترب من صفات الألوهية، وصارت الدولة هي الفاعل الأعلى في التشريع، وأصبحت -من خلال جهازها البيروقراطي المتصل بشؤون التعليم والصحة والبيئة والعمل- قادرة على التدخل في تشكيل الفرد والجماعة وفق معايير تضعها هي، وأدت هذه التغييرات إلى إضعاف الروابط الأسرية، وتدمير النظام الاجتماعيِّ، وإنتاج إنسانٍ أشبه بآلة افتقدت روحانيتها، وتمت برمجتها لتكون عنصرا يخدم استمرارية الدولة، وغابت في حسابات الدولة المعايير الأخلاقية أمام طغيان حسابات المنفعة المادية.
في مقابل ذلك، كان قانون الإسلام الأخلاقي المعروف باسم "الشريعة" حتَّى بداية القرن التاسع عشر، ولمدة 12 قرناً، قد نجح في العالم الإسلامي في تشكيل القوة القانونية والأخلاقية العليا التي تنظم شؤون الدولة والمجتمع، وذلك قبل أن يتم على يد المستعمر الأوروبي تفكيك النظام الاقتصادي الاجتماعي والسياسي الذي كانت تنظمه الشريعة هيكليا، وقد أقر الحكم الإسلامي أن الله هو الشارع الوحيد، وقانون الله هو الشريعة، والشريعة هي الشرعة الأخلاقية، تمثيلا لإرادته الأخلاقية التي هي الشاغل الأول والأخير. وقد شكل مفهوم سيادة الله في الإسلام، مع ما يعنيه من عدم وجود ملك أو دولة يتحكمان في الشريعة، نموذجاً خاصاً من نماذج الفصل بين السلطات، واختلافاً أساسيّاً يميزه. وفي ظل الحكم الإسلامي كان التعليم، مثل الشريعة، مستقلاً بصورة دالة عن الإرادة التنفيذية التي لم يكن لها سيطرة على مضمونه أو تكوينه الديني الأخلاقي، وتضافر عند الفرد حب الله والخوف منه لتحقيق إحساس عميق بالخضوع لقوة أعلى خلقت، وبالتالي تملك كل شيء في الوجود.
وبالمقارنة بين الصورتين، يصل مؤلف "الدولة المستحيلة" إلى أنه إذا أراد المسلمون اليوم تبنِّي قانون الدولة الوضعي وسيادتها، فإن ذلك يعني بلا شك قبولاً بقانون نابع من إرادة سياسية، كما يعني القبول بأننا نعيش بكونٍ بارد نملكه ونستطيع أن نفعل به ما نشاء، والقبول بأن تُنحّى جانباً المبادئ الأخلاقية للقرآن والشريعة التي قامت على الأخلاق لقرون، لمصلحة قوانين متغيرة صنعها الإنسان، وأقرت من بين ما أقرت السيطرة على الطبيعة نفسها وتدميرها، وهي التي خلقها الله للبشرية للتمتع بها على أساس المسؤولية الأخلاقية.
على هذا، فإن الاستحالة التي أشار إليها عنوان الكتاب لا تأتي من قصور في مضمون التشريع الإسلامي وأبعاده السياسيّة، وإنما من أنه لا يمكن للحكم الإسلامي أن يقبل بأي سيادة أو إرادة سيادية غير سيادة الله، وأنه ليس لدى المسلمين الساعين لبناء دولة إسلامية تبرير للتضحية من أجل دولة لم تستطع، ولا تستطيع تقدير الالتزام إلا بطريقة وجود منفصلة عن الأخلاق، وبالوضعية والوقائع، وما هو قائم، دون اعتبار لما ينبغي أن يكون.
أمام هذه الحقائق، ومع اعتبار أن الانعزال ليس خيارا ممكنا في عالم اليوم، يغدو البحث عن المخرج من هذه التناقضات أمرا ملحّا، وهنا يقدم الكاتب رؤية تأخذ بالاعتبار حاجة الحكم الإسلامي إلى الاعتراف به كمشارك في مجتمع الدول القومية من جهة، وإمكانية تلاقيه مع توجه غربي لدى طائفة من المفكرين يتململون من حالة افتقار مجتمعات اليوم إلى الأسس الأخلاقية والروحية.
فرغم اندثار مؤسسات الشريعة وتفسيراتها وشخوصها عند المسلمين، فإنه لا تزال آثارها الأخلاقية صامدة بإصرار لا يتزعزع. ويمكن لهذا النظام الأخلاقي، وهو رأس مال لا يقدر بثمن، أن يدعم وجهتين للعمل على الأقل، إحداهما داخلية والأخرى خارجية.
فيمكن أولا للمسلمين الآن خاصة بعد الربيع العربي أن يشرعوا في الإفصاح عن أشكال حكم جديدة، وبنائها على نحو تكون فيه قابلة لتطوير أكبر وأقوى. حيث ينبغي إعادة التفكير في الوحدات الاجتماعية التي تصنع النظام الاجتماعي السياسي الأكبر على أساس مجتمعات أخلاقية، تحتاج إلى أن يُعاد لها ثراؤها الروحي.
ويمكن ثانيا للمسلمين أن يسهموا في إعادة تشكيل الأخلاقيات الحديثة من خلال التفاعل مع نظرائهم الغربيين، وتطوير مفردات يمكن لهؤلاء النظراء أن يفهموها، لينتعش الأمل في أن يوحد الجميع جهودهم لتفكيك أسطورة صراع الحضارات المؤذية، ويتمكنوا من مضاعفة قوتهم الأخلاقية لتحقيق نصر يؤسس الأخلاقَ كنطاق مركزي لثقافات العالم، بصرف النظر عن التنوعات الحضارية.
ويتركنا وائل حلاق في نهاية البحث مع كلماته: لا شك أن العيش معا في سلام على الأرض هو عمل شاق، وقد يكون يوتوبيا حديثة أخرى، بيد أن إخضاع الحداثة لنقد أخلاقي يعيد هيكلتها يبقى الحاجة الأساس، لا لقيام حكم إسلامي فحسب، بل لبقائنا المادي والروحي، وليست الأزمة حكرا على الحكم الإسلامي والمسلمين.