شعار قسم مدونات

الكتابة وتفاوت طبيعتها بتفاوت العوامل المختلفة..

كيف تساعدك الكتابة في التعافي من الاكتئاب
خارج الحالتين المتمثلتين في الإملاء والاستنساخ من مكتوب آخر، هل يعتمد الكاتب إلا على وجدانه كأن البنان في ذلك قلم مداده الذاكرة (مواقع التواصل الاجتماعي)

الكتابة بطبيعتها عملية غَرف من الوجدان إلى مهاد الصفحات بوسائل التفكير والتصنيع الذهني والإحساس، كما قد تشبه في نتيجتها الاصطياد على الشاطئ لاستخراج بعضٍ مما يحويه لإظهاره إلى العلن وتحقيق الهدف الذي يراد منه، وما دامت بهذا الحال فمعروف أنها تتفاوت تبعًا لتفاوت الآليات والإمكانات وطبيعة المنابع وعمق ومستوى الشواطئ التي تَثوي بها المكنونات، فضلا عن ظروف الطقس التي هي من أبرز ما يحدد نسبة الجمال والجاذبية في مثل هذه التجارب، و في ما يتعلق بالكتابة، يتجسد الطقس عبر طبيعة الإحساس والرهافة وقدرة المشاعر في سياق الإبداع التأليفي للكلام والمضمون الذي يُرسم من خلال الحروف.

ويعدّ عنصر الإمكانات أكثر تلك العوامل اتصالا بصميم هذا العمل، إذ يُتوقف هنا مع رافد "عوالق الثقافة العربية" لكونها واقعة بأهمية ضمن سلّم الأولويات التي تسهم في كتابة عربية سليمة المبنى متصالحة مع ذاكرتها في ما يخص المعنى.

فخارج الحالتين المتمثلتين في الإملاء والاستنساخ من مكتوب آخر، هل يعتمد الكاتب إلا على وجدانه كأن البنان في ذلك قلم مداده الذاكرة، أو كأن عملية مسح ضوئي تتم من خلال التصريف للبنان على الشاشة أو ورقيا لتقديم ما جاش في الذهن من المعلومات، أو مما تم حفظه، أو كان وليد صناعة ما وتركيب ذهني، أو كان متصلا بالمشاعر، فيصبح مكتوبا بذلك في وضع يقترب من فكرة تقنية الماسح الضوئي بغض النظر عن طبيعة الكفاءة ومستواها في تلك العملية التصويرية.

وعليه، ستمثل الخلفيات المرجعية للذاكرة والروافع الثقافية التي تساعدها وطبيعة التأثيث بفضائها العام عاملا حاسما في تشكيل الصورة الكتابية للمحتوى، ومن هنا تبرز قضية الصحة اللغوية التي تخضع لهذه المؤثرات، فمن الطبيعي أنه إذا انبنت الذاكرة اللغوية العربية للفرد من خلال التمثل للأصول اللغوية وقواعدها والنصوص التي تعد قاعدة تأسيس وانطلاق في ذلك، ستكون الصحة بخير، وإلا "فلا تَسأل عن الخبرِ"، ولا عجب حينئذ أن تنبت العلاقة مع السلامة الأسلوبية في جوانب من المكتوب نتيجة القطيعة مع المنابع الأصفى لاكتساب مهاراتها وتحقيق رهاناتها.

كما أن تلك المرجعيات اللغوية أداة لبناء الروح العربية، وهو بُعد أوسع من مفهوم الصحة والخطأ التعبيري من حيث تطبيق القواعد، لمدى اتصاله بالذائقة حيث يسهم في رعايتها بما يخدم الهوية اللغوية لها ويضمن عدم الانشطار الذاتي الذي يقع للفرد والمجتمع إذا ما كان هناك تباين مع المنطلقات والجذور، ولم يحصل الاحتفاء الكافي بها في التمثلات والتجليات والمسيرة العامة.

وتضمن عوالق الثقافة أيضا التزويد من المعين العربي الخالص للكتابات فتتأثث به، وهو ما يعزز هويتها وانتسابها لنفسها وللحضارة التي يمثلها اللسان العربي، إذ إن سجلات الأسماء والرموز في التاريخ المجتمعي للغة، والأحداث، والأمثال، والقصص، وغيرها مما يقبع في ذلك التاريخ تشكل كفة ترجيح في إطار الغيرة على اللغة والبحث عن أفضل المستويات لواقعها، من دون أن يعني الأمر بالطبع انكفاء أو انغلاقا لجدران اللغة عن المحتوى الخارجي المتصل بالأمم والحضارات الأخرى، فذلك مما يستحيل.

 

الهجرة التعبيرية

ولا شك أنه لا تمكن المطالبة أيضا بأن يكون كل كاتب عربي وثيق الصلة بالمعارف الأدبية والعربية، إذ إن الأمر بهذا الشكل تخصص أو أقرب إلى التخصص في حق من قَوي ارتباطهم به، أو عظم نزوعهم إليه.

يمينا إذا كانت يمينا وإن تكن .. شمالا ينازعني الهوى عن شماليا

ولكن في المقابل، لا مناص نظريا من أن يكون لأي متعلم ودارس أفق عربي من المادة الثقافية العربية عموما يضمن بوصلة لتعابيره اللغوية والنحوية، ويضفي الخصوصيات القومية على اللغة، ويرصّع النصوص من خلال إرثها التاريخي ويكافح الهجرة التعبيرية التي تجعل المكتوبات خاوية على عروشها من تراثها وعلائق ارتباطها اللغوي، فكثير من عيّنات الكتابة في الفضاء العربي اليوم تعاني الاغتراب الروحي، فهي حروف أبجدية عربية ولكنها من حيث التفكير والمحتوى الثقافي المستخدم في بناء التعبير كتابة مهاجرة.. (أحر المشاعر، يلعب دورا، بدم بارد، عنق الزجاجة، حجر الزاوية، فرض السيطرة، يجد نفسه أمام..)، فضلا عن الولع بالاستشهاد بمقولات الكتاب من خارج الحضارة العربية وإيراد أسماء ومؤلفات تستحسن وتستجاد معرفتها، ولكن إهمال الحيز العربي ومنح الشهرة لها بدله في جغرافية الكتابة العربية هو مما يسهم في تذويب الانتماء ونزع صبغته أو تحويلها باهتة تكاد تتلاشى.

فالطمس لمعالم البيئة الثقافية العربية في نصوصنا اليوم ما هو إلا نوع من الاستيطان بأرضيتها، وتهجير لعناصر الانتماء الحقيقية ليفتح ذلك الباب أمام مختلف الاحتمالات السلبية في ما يتعلق بمصيرها، فقد يتسبب ذلك في ما يشبه عملية إبادة لنصيب مهم من الذاكرة الذاتية والإرث الحضاري، وقد تنجح عوامل المقاومة والرفض في إبقائه نابضا وإعادته عند تحرير المحتوى الثقافي من قبضة التحكم الأجنبي، وهو ما يتم عن طريق دعاة المحافظة اللغوية وذوي الكتابات المشربة بتاريخها ومادته العلمية إلى جانب عدم غيابها عن الاستخدام من الثقافات الأجنبية وحضارات الأمم والشعوب المختلفة، كما أن قطاعات من الأمة يظل لها الدور المهم في هذا المنحى بوصفها الجهة المرابطة على ثغور اللغة حتى تتوفر عوامل نهوض اللغة كما قررها ابن خلدون، وريثما تحين ساعة تلك العوامل تظل إسهامات تلك الجهات مثل أنوار بروق في أفق من الغياهب.

ولعل المسألة في هذا الجانب لا تختص بالإشكال اللغوي؛ ذلك أنها قضية حضارة وإشكال أمة تعيش التجاوب مع معادلة حوْل رهاناتها وعوامل التغير الأمر الذي يلقي بظلاله على  كثير مما يتصل بالهوية، ولا شك أن اللغة في المقدمة من ذلك لكون اللغة ربما أبرز عنوان قومي للأمة، أي أمة كانت، ولم نقل الدِّين لأن الدين قد جاء عنوانا عاما للإنسانية جمعاء.

لذا، حين تتضمن كتاباتنا الأمثلة والمقولات العربية المستمدة من أصولها مع المعلومات والأحداث والأيام، ويتم تصالح الثقافة المتداولة مع العديد من ذلك، فيكون محتوى مشتركا من حيث الاستخدام والتوصيل بين الجميع، حينئذ سنلحظ باطراد ارتفاعا في منسوب مستوى اللغة من حيث ما يخص الصحة والسلامة القواعدية، والعكس صحيح.

فمن يكتب برعاية خلفية علمية عربية ما ليس كمن لا يتوفر له ذلك، وهذا مربط الفرس في هذا الإطار، والمهم بشأنه زيادة وتفعيل المادة الثقافية العربية في التداول والاستخدام العام ضمانا للغة تشي بذاتها وتضمن وسائل حمايتها، بوصف هذا واحدا من المعايير التي تفتقد النسخة المعاصرة من اللغة تحقّقها بالدرجة المطلوبة.

كما أن من المعلوم أن النصوص الضاربة في تاريخ اللغة العربية تظل من أفضل الوسائل في إكساب الطلاقة للسان وإجادة المَلَكة اللغوية، ويحضرني في هذا المقام ما حدث مع أحد الأصدقاء ممن يعملون في التحرير ويتطلع إلى المهارة في المجال اللغوي بخاصة على مستوى النطق والفصاحة في الأداء اللفظي، وكان قد أراد مني توفير اختيارات بين الفينة والأخرى لنصوص وفقرات تسهم في تحقيق الهدف الذي يصبو إليه، وفي المرة التي وقع اختياري على خطبة أكثم بن صيفي (لا يفوتنكم وعظي إن فاتكم الدهر  بنفسي) كان سعيدا بها معبرا عن ثقته بما يمكن أن يتوفر من خلال مثل هذا النموذج، إذ يؤدي برأيه دورا فاعلا في اعتياد التحرك داخل النطق، ويكسب النجاح في الإبانة، وينمّي ويعزز المقدرة المتطلبة في هذا الشأن، وتلك المزايا لا جدال فيها وتشير في ما تشير إليه إلى حالة الانفصال بين النسخة الرائدة في إكساب المهارة اللغوية، والمحتوى المعاصر اليوم الذي هو في متناول الجميع وأغلبه محتوى صحفي أو بلغة الكتابة الحديثة.

وبناء الذائقة والذاكرة اللغوية يحتاج إلى أبعد من ذلك، ويتطلب رجوعا إلى المصادر التي تحقق الهوية الثقافية للقارئ والكاتب العربي وتؤسس للذهنية الضرورية، وتدعم ضمن أولى أبجدياتها الأداء في النطق؛ فلا يجد القارئ ذو الصلة بمدرستها بعد ذلك صعوبة في النطق لمثل البناء التركيبي ألفاظا وإعرابا في قول محمد ولد محمد سالم المجلسي:

وهل أغدو بُكورَ الطيرِ رَحْلِي .. على وَجْناءَ دَوْسَرةٍ هِجان

تَبُذُّ العيسَ لاحقةً كُلاها .. وتَطوي البِيدَ مُسْنَفَةَ اللبان

تُرَى بَعْدَ الدُّؤوب كأَخدَرِيٍّ .. بِيَمْؤودٍ أَرَنَّ على أتان

ولا يعني ذلك مسألة المعرفة بالمفردات الواردة في الأبيات والوصول إلى المحتوى المتضمَّن بها؛ فذلك مما قد يندرج في إطار الاختصاصات أو الهواية على الأقل، وإنما المقصود هو التصالح مع المهيع العربي في اندياح الأسلوب والاستعداد باطنيا للتحرك في مساراته بما لا ينزعج به اللسان ولا يتعكر معه الذهن، كما أن حالة هذا النموذج الشعري أيضا، على الرغم من وجود ما هو أكثر منها صعوبة بكثير، من الممكن ألا يكون تمام التأقلم معها قراءة ونطقا مطلبا لمختلف كل الفئات والقراء، ولكنها قد تمثل سقفا مقبولا في الدرجة المفضلة بوجه عام.

وإضافة إلى ما سبق، فإن الانطلاق من المصادر الأولى يحقق بين ميزاته النجاح على مستوى اللغة الحديثة والكتابة بها، ضامنا الأمان العربي للغة واستخداماتها.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.