شعار قسم مدونات

سارين الذاكرة القاتل..

في الغوطة طبيب يؤدي مهمته الإنسانية ويحقق أمن الوطن الصحي، وفيها حجر يبني بيتا يحقق أمنا سكنيا لأحدهم (الجزيرة)

إنه 21 أغسطس/آب؛ هذا التاريخ ربما لا يعني الكثير لأحد، لكنه الذاكرة التي تفوح منها رائحة السارين من الريف الشرقي لمدينة دمشق، وتحديدا من الغوطة.

إنه التاريخ الذي يبث صورا متعددة مليئة بالزبد والقسوة، هذا التاريخ الذي يحيي في أذهاننا أجسادا طرية كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة لكنها ترغب بالحياة، هذا التاريخ مليء بمشاعر الصدمة والعجز والحقد لما يحصل.

إن النظر إلى الشاشة بما تحمله من صور يجعلك مقيدا بشكل كبير ومذهل. أتذكر أنه كان آخر أيام من شهر شوال أيضا، وكنت صائمة، أغمضت عيني، وشعرت أن الزمن توقف أو أنني ظننت أن الزمن سيتوقف وفعلا وقف الزمن كل مرة أمام هذا الإجرام، وأمام عداد الموت الذي كتب على الشاشة.

ولا يعنيني أمن أي أحد أمام هتك الأرواح والأنفس، لا يعنيني الأمن، ومن قال إن الأمن يتحقق بالإجرام؟ ومن قال وجودك على هذه الأرض يتحقق بزوال غيرك وسحقه؟ أين تشكلت هذه المفاهيم ومن أين مستوحاة أساسا؟

وفي الغوطة شجرة كانت معنية بمهمة أمن الوطن البيئي بإعطائها كمية من الأكسجين، وفي الغوطة طفل يحلم أن يكبر ويكون مزارعا يعمل مع والده ويأكل مما يزرع ويحقق أمن الوطن الغذائي، وفي الغوطة أيضا طبيب يؤدي مهمته الإنسانية ويحقق أمن الوطن الصحي، وفيها حجر يبني بيتا يحقق أمنا سكنيا لأحدهم، وفي الغوطة رجل يدافع بقوة ولا يقبل الظلم ويحقق أمن الوطن الاجتماعي، وفي الغوطة تحقق الأمن وعم التعايش، وفي الغوطة صرخة أرادت أن تقيم أمن الإنسانية وتنتزع أعظم حقوقها بكونها حرة؛ لأن الله تعالى أوجد هذه الأنفس حرة ولم يجبرها على عبادته، فمن أنتم حتى تسمموا الهواء وتهدموا الأمن الصحي والبيئي والاجتماعي والغذائي والسكني والأعظم من ذلك تسلبوا الأنفس حقها، والأكثر من ذلك تقتلوها؟!

أنتم مجرمون والرب سيحاسب، أنتم من قام بالفعل بضرب المنظومة الأمنية بأبشع الوسائل، وفي كل حال من الأحوال الغاية لا تبرر الوسيلة مطلقا.

تكرر مشهد السارين لاحقا، ولكن بأماكن مختلفة؛ فتارة في اللطامنة وتارة أخرى في خان شيخون.

فُوجئ العالم أيضا هذه المرة وبقوة بعد هجوم الغوطة، ودعا مجلس الأمن الدولي -المعني بقضايا من هذا النوع- إلى التحرك لوقف استخدام الأسلحة الكيميائية ضد مدنيين، وإذا بالقرار 2118 يصدر ثم يتبعه بيان جنيف ومرفقاته 1و2 التي تدعو لانتقال سياسي في سوريا وتدمير الأسلحة الكيميائية، وإذا لم يتم الامتثال سيتم التدخل تحت الفصل السابع.
صحيح أنه لم يتم الأخذ حرفيا بما جاء بالمرفقات والقرار، لكن الضربات الأميركية نالت من نظام دمشق، وأصابت ما أصابت من أهداف ومخازن أسلحة.

منظمة حظر الأسلحة الكيميائية هي الأخرى شكلت لجنة لتحديد هوية المجرم، فأكدت أن استخدامات الأسلحة ذو طبيعة خاصة، وأنه لم يتم ما لم يكن من قيادة عليا في سوريا تأمر بذلك.

واليوم نحن هنا، وهذه قضيتنا، نعم في سوريا ولاهاي وجنيف وآستانا ومجلس الأمن وفي محكمة العدل الدولية ومحكمة العدل الربانية أيضا، وعلى منابر المساجد، وفي الكنائس نقيم الأدعية والصلوات، ونقاتل بالأنفس بما تحمله من قوة، وبما نحمل من كلمات وإيمان نزلزل ونصعد ونكتب وندافع ونقف نصنع من أنفسنا لبنات منيعة قوية، ونرفع سقفا ونزرع شجرا ونربي إنسانا، ونعلم طفلا، نحن نهوى أن نكون عبادا ربانيين بما أوتينا من قوة، ونقيم على هذه الأرض نعمر أنفسنا لتعمر بنا، لا نريد أن نموت إلا وقد حققنا ما هو مطلوب منا بالفعل، وإن الموت قادم لا محالة، لكن ما يريده الله منا أن نحيا معمرين عاشقين منتجين لا هادمين، فنحن أصحاب الرسالة لا نريد أن نقرأ بكتب مهترئة، وتعلمنا الكتابة ونسينا دروس الإملاء، وإننا نكتب ونتذكر لتتذكر الأجيال ولتعلم أن الحقيقة لا يمكن خنقها أو تمييعها أو الاتجار بها.

الحق يعلو دوما وله سلطان نصير، ومن أجل العدالة ومن أجل الحقوق لن نصمت.

واليوم لا يمكن إسكات هذه الأفواه ولا تكميمها، وأخال أجزم أن كل طفل خلّف وراءه عشرات الناطقين يطالبون بدمه، على أن المعركة قائمة والحق سيقام قسطا والنفس بالنفس.

وبإيمان ذلك الطفل الذي قال إنه "سيخبر الله بكل شيء"؛ سيهزم كل شيء.

10 أعوام ولم ينته شيء ولن ينتهي إلا عدلا، وجُلّ ما أعرفه حتما أن الظلم منتهٍ والباطل مهزوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.